حمد عبد العزيز الكنتي
تبدو المدن صاخبة في الصباح، وفي المساء تكسو الغربة وجوه الجميع.. غرباء نحن نزاحم الطرقات في كل مكان، نحتسي قهوة الغربة في الأسواق.
ونزاحم الصمت في محطات النقل العام ونصغي فيها لثرثرة الدليل الصوتي يخبرنا بالمحطة التي نتوقف فيها حالياً، أو تلك التي تنتظرنا بعد لحظات.
وبعد أن نصل إلى غايتنا المتوقعة لا الأصلية -لأن كل شيء فيها عامر بالتوقعات كما قال محمود درويش (لا الرحلة ابتدأت.. ولا الدرب انتهى) - نبدو صغاراً أمام شموخ تلك الأبراج الشاهقة التي نقتبس من صمودها الكثير من الطموحات المشروعة.
نمضي بين أزقة تلك المدن الغريبة ومساراتها الجديدة علينا كلياً وسط زحمة من البشر ذوي الطموحات المختلفة، فالكل يبحث عن فرصه المتوقعة واللا متوقعة، المأمولة وغيرها، والكل يركض نحو حظه المنتظر.
ندلف بقصد أو بصدفة، بوعي أو بدونه إليها باحثين عن شيء من فرص إثبات الوجود، وحينها تختلف الحياة حولنا بين القبول أو الرفض، بين البسمة أو العبوس، مما يجعل تساوي الفرص حينها يتجاوز عبثية الموظف إلى سعة الله وفضائله التي لا تنتهي.
نترك الأوراق المحملة بخبرات الماضي، وقدرات الحاضر هنا وهناك، نغادر المكاتب الضيقة والفسيحة، ونترك الأدوار المتعددة، وننزل في المصاعد الكبيرة والصغيرة، ونترك الأبراج العريضة والنحيلة، ونتجاوز الأماكن القريبة والبعيدة لتستقبلنا عند الأبواب غربتنا مجدداً التي تعتني بنا جيداً لنمضي معها نحو الأمل الذي لا ينتهي.
في كل سيارة أجرة لنا قصة جديدة، قصة تنبع من حروفها المفككة، وعباراتها المبعثرة، وخيوطها اللغوية المتشابكة، لنصل أخيراً وبعد عناء للمعنى المقصود الذي يُعبِّر عنا أو عن الآخر.. فالكل فيها متحفّز للبوح، والجميع مستعد لسرد الحكاية بأي لغة كانت، المهم أن يمتلئ المكان بالصوت مزاحماً صمت الغربة المخيف.
وفي الطريق نمضي والخطوات تحثنا على المسير، حيث نتواجه مع ذواتنا في تلك الوحدة لتسقط جميع الأقنعة، وتنهار جميع التناقضات، وتتواجه الأسئلة مع الأسئلة في صراع العقل والقلب، والتي نتمنى أن تؤدي بنا نحو كل ما فيه مصلحتنا نحو «الحق والخير والجمال».