د. منى بنت سعيد القحطاني
مع كل عام دراسي جديد تتفتح المدارس كحدائق تنفض عنها غبار السكون وتعود لتزهر بالحياة من جديد. الممرات التي خيم عليها الصمت تعود لتتردد فيها الأصوات، والسبورات التي غطاها الغبار تتحول إلى فضاءات تتفتح فيها الكلمات، وصفوف الدراسة تمتلئ بوجوه متطلعة تحمل أحلاماً أكبر من أعمارها.
هنا، من هذه اللحظة البسيطة التي تبدأ بجرس الصباح، ينطلق المستقبل بخطوات صغيرة لكنه واثق، يتشكل بين دفاتر بيضاء وأقلام لم تجرب بعد.. كل بداية دراسية ليست مجرد عودة للفصول، بل انطلاقة نحو آفاق أبعد مما نتصور. هذه المقاعد المتواضعة التي يجلس عليها أبناؤنا ليست مجرد خشب ومعدن، بل هي شواهد على بدايات عظيمة؛ فمن فوقها كتبت أول كلمة، ورسم أول حلم، وتعلمت الأيدي الصغيرة أن تحمل القلم لتخط طريقها في الحياة. هي مقاعد تختزن في ذاكرتها قصص أجيال، وتستعد كل عام لتضيف فصلا جديدا إلى الحكاية. وفيها يصاغ الغد كلمة كلمة، ولبنة لبنة، ليبني مع الوقت صرحا لا يزول.
وما يجعل هذا العام الدراسي مختلفا أن التعليم لم يعد على صورته التقليدية. لقد تحول من قاعات مغلقة إلى فضاءات مفتوحة، ومن مناهج جامدة إلى مناهج تتجدد باستمرار لتواكب حاجات العصر. أصبح الطالب محور التجربة لا متلقيها، وصارت أساليب التدريس أكثر مرونة وتفاعلية، تعتمد على المشروعات والأنشطة وحل المشكلات لا على الحفظ وحده. فالهدف اليوم لم يعد اجتياز اختبار، بل بناء عقل ناقد قادر على التفكير والابتكار.
دخلت التقنية إلى قلب الفصول فأعادت تشكيل طريقة التعلم.
اللوح الذكي حل مكان السبورة التقليدية، والمنصات الإلكترونية صارت امتداداً للفصل، والتطبيقات التعليمية جعلت الطالب قادراً على التعلم في أي وقت ومن أي مكان. لم يعد الكتاب وحده مصدر المعرفة، بل أصبحت شبكة واسعة من المصادر الرقمية في متناول اليد، تمنح الطالب قدرة على البحث والاكتشاف وربط ما يتعلمه بواقعه.
ومع حضور التقنية برز الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز ملامح التحول. لم يعد مجرد مفهوم مستقبلي، بل أصبح أداة حقيقية تساند المعلمين والمتعلمين، من خلال التوصية بالمصادر التعليمية المناسبة، وتخصيص مسارات تعلم تراعي الفروق الفردية، وتقديم ملاحظات دقيقة تساعد على التطوير. هذا الحضور يعكس وعيا بأن التعليم لم يعد مجرد نقل معرفة، بل هو بناء منظومة متكاملة قادرة على إعداد جيل يتفاعل مع تحديات المستقبل.
إن المدارس في حقيقتها ليست جدرانا تحيطها أسوار، بل هي مصانع أمل. فيها تتلاقى الجهود: دعم أسرة تمنح أبناءها الثقة، شغف متعلم يخطو خطواته الأولى نحو المعرفة، وإخلاص مُربٍّ يفتح لهم الطريق. الجميع هنا شركاء في مشهد واحد، حيث الكلمة تبني عقلا، والعقل يبني إنسانا، والإنسان يصنع وطنا.
التعليم ليس حدثاً عابراً في حياة أبنائنا، بل مسار طويل يولد فيه الغد يوما بعد يوم. كل ما يبدو بسيطاً في تفاصيل الحياة المدرسية اليومية يخفي في جوهره أثراً عميقاً. ابتسامة في بداية اليوم قد تزرع في قلب طفل رغبة لا تنطفئ، وكلمة تشجيع قد تتحول إلى شرارة تغير مسار حياة كاملة. ما يحدث في هذه الصفوف الصغيرة ليس عابراً، بل هو نسيج يحاك بخيوط الأمل والمثابرة، لتتشكل منه صورة المستقبل كما نطمح أن يكون. ومع مرور الأيام تتحول الدفاتر البيضاء إلى صفحات مليئة بالمعرفة، وتغدو الأحلام التي رافقت البدايات خططا واقعية، ويكبر الأطفال ليصبحوا رجالاً ونساءً قادرين على حمل المسؤولية. وما بدأ من صفوف متواضعة يتحول مع الزمن إلى مشاريع تنموية وابتكارات علمية ونجاحات تسجل باسم الوطن.
إن جمال القصة يكمن في أن هذه البداية تتكرر كل عام في كل مدرسة ومدينة وقرية، وكأنها نهر لا ينضب يجري في عروق المجتمع ويجدد فيه دماء الحياة. كل صباح دراسي هو وعد جديد بأن المستقبل يصنع هنا، في هذه الفصول، بجهود أبنائنا وبناتنا، وبالأمل الذي لا يعرف التوقف. وفي النهاية ليست المدرسة مجرد مكان للتعلم، بل هي مرآة لمستقبل الأمة وميدان يلتقي فيه الحلم بالعمل.
ومن صفوف اليوم تكتب قصة الغد، ومن عقول أبنائنا يولد المستقبل.
** **
- خبيرة تربوية في تطوير المناهج وطرق التدريس