د. رانيا القرعاوي
«السكوت لم يعد من ذهب» في عالم الإعلام المتسارع الذي تنتشر فيه كلمة واحدة مثل «يرغل» فتفسد عمل حملات توعوية كاملة لنجاح حملة توطين الصيدليات، وتتحول الحملة إلى مادة للسخرية أو النقد، بدلاً من أن تحقق الغرض السامي وهو رفع مستوى الوعي. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن ما بين 50 في المائة و70 في المائة من المؤسسات مرّت بأزمة علاقات عامة خلال السنوات الأخيرة، كان بالإمكان تفادي كثير منها لو وُضعت خطط اتصال وإعداد مسبق واضح.
تشير الأدلة إلى أن معظم الحوادث الإعلامية لم تكن بسبب وقوع الخطأ، بل نتيجة غياب الاستعداد والاستجابة المناسبة. فدور العلاقات العامة يظهر بوضوح عند الأزمات، إذ تعمل على إعادة بناء الثقة وحماية السمعة، بينما يُفقد هذا الدور أهميته في المؤسسات التي تكتفي بنشر الرسائل دون فهم الجمهور أو قياس أثرها، وهو ما يزيد من احتمالية تفاقم الأخطاء.
تؤكد نظريات الإعلام أن السكوت أمام خطأ إعلامي قد يكون مكلفًا للغاية، فالصمت يمنح الخطأ مساحة للانتشار، في حين أن الاعتراف السريع والعلني، الذي قد يبدو ضعيفًا في البداية، يمثل في الحقيقة استراتيجية ذكية توقف تصاعد الأزمة قبل تفاقمها. وليس كل مسؤول مهيأ للظهور الإعلامي، مما يستدعي تدريبًا عمليًا للمتحدثين الرسميين على السيناريوهات المحتملة، مع مراجعة كل كلمة قبل الإدلاء بها، وضرورة حضور فريق العلاقات العامة في اللقاءات الإعلامية لتقديم التوجيه الفوري أو إعادة المقابلة عند الحاجة. كما ينبغي أن تكون هناك خطة جاهزة للاستجابة السريعة تشمل الاعتذار العلني المدروس وتوضيح الموقف وتصحيح الخطأ، لتحويل الأزمة إلى فرصة لإظهار احترافية المؤسسة وشفافيتها.
وبحسب نظرية ترتيب الأولويات (Agenda-Setting Theory)، عندما يخطئ المتحدث في كلمة واحدة أثناء حملة توعية، يتحول تركيز الجمهور من مضمون الرسالة إلى الجدل حول العبارة ذاتها، فيتصدر الخطأ النقاش العام ويختفي الهدف الأصلي للحملة. هنا يبرز دور العلاقات العامة في إعادة ضبط الأجندة الإعلامية لصالح المؤسسة عبر التصرف السريع والفعال، فترك الخطأ دون معالجة يترك مساحة مفتوحة لفقدان السيطرة على السردية.
المسؤولية مشتركة بين المتحدث الرسمي وفريق العلاقات العامة؛ فغياب التدريب يجعل المتحدث عرضة للزلات، وغياب الدعم الاحترافي يؤخر احتواء الأزمة ومعالجتها في الوقت المناسب. واستنادًا إلى نظرية إدارة الأزمات الإعلامية (Crisis Communication Theory)، فإن الاعتراف السريع والشفاف بالأخطاء هو المفتاح للحفاظ على السمعة، بينما الصمت في الإعلام ليس ذهبًا بل عبء مكلف على المؤسسة، إذ يمنح الموقف فرصة للتضخم وفقدان الثقة.
ومن الأمثلة العالمية البارزة أزمة «تايلينول» عام 1982 حين واجهت شركة Johnson الجزيرة Johnson كارثة وفاة سبعة أشخاص بسبب تلوث المنتج، لكنها لم تلجأ إلى الصمت أو الإنكار، بل عقدت مؤتمرًا عاجلًا، وسحبت ملايين العبوات من الأسواق، وقدمت اعتذارًا علنيًا حتى قبل انتهاء التحقيقات التي أثبتت لاحقًا أن الخطأ لم يكن منها. النتيجة أن الشركة استعادت ثقة المستهلكين خلال أقل من عام، وأصبحت هذه الحادثة نموذجًا عالميًا في إدارة الأزمات الإعلامية.
الاعتذار المدروس والعلني يبقى درع الحماية الأهم لإنقاذ الحملات والحفاظ على ثقة الجمهور. فالكلمة قد تُسقط حملةً كاملة، لكن كلمة أخرى صادقة وذكية قادرة على إنقاذها وإعادتها إلى مسارها الصحيح.