منصور ماجد الذيابي
في خضم الأحداث المتسارعة للحروب الدامية والحشود الجائعة والتغيرات الطارئة والمظاهرات الغاضبة التي يشهدها عالم اليوم، فإنني اعتقد بأن إنسان هذا العصر قد لا يتمكن من الصمود طويلا أمام كل هذه العواصف العاتية إذا ما استمرت وسائل البث الأجنبية وأدوات التواصل الاجتماعية بضخ سيول متدفقة ومتلاطمة الأمواج في زوايا عقل الإنسان الذي لم يعد يستوعب أو يحتمل كل هذا الزخم من مشاهد الجوع والدمار والخراب والتهجير والتطهير وتشويه الحقائق واستخدام التقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي في إعادة برمجة عقول البشر بكل أنواع الشرور والسموم إلى الحد الذي قد يجعل الإنسان ينسحب من نمط الحياة اليومية المعاصرة ويهرب بعيداً إلى حيث لا يمكن لهم الوصول إلى مجال تفكيره واستقراره وطمأنينته وبراءته بوسائل حديثة سعت وما زالت تسعى عبر سنوات طويلة من حياته في المدن إلى اختراق حدود المجالات الفكرية والقناعات الإنسانية والثوابت الدينية والانتماءات الوطنية ثم توغلت واستوطنت في بعض العقول البشرية كما أوضحت سابقا في مقال بعنوان «بناء مستوطنات ثقافية في العقل العربي».
فأين يذهب هذا الإنسان المثقل بهموم وصخب وضجيج العالم وما يجد فيه من مآسٍ وكوارث وما يعرض أمامه عبر وسائل وتطبيقات وبرامج من حروب وويلات ونكبات وبشائع ووقائع صادمة لمشاعره ومزعزعة لاستقراره الذهني والنفسي، وكيف يمكن له الهروب وقد تمكنت إرهاصات الزمن الذي يعيش فيه من تقييد حركة تفكيره وتعطيل وسائل بحثه عن الهدوء والاستقرار والصفاء والبساطة وغير ذلك مما عرفه إنسان العصور الماضية عندما لم يتم آنذاك اكتشاف وسائل ضخ الأفكار السامة والمشاهد المؤلمة في عقل الإنسان والتوغل فيه ومن ثم محاولة زعزعة استقراره الذهني وتفكيك جذور مبادئه وقناعاته الإنسانية من خلال فرض إيقاع حياة سريع جدا بمتطلبات حياتية تفرض عليه التعايش معها والقبول بها إلى الحد الذي لا يجد عنده أي خيارات بديلة سوى القبول بالواقع والانصهار مع الذين انصهروا وغرقوا قبله في أعماق السيول الجارفة، أو العودة إلى المربع الأول حيث لا شبكات تواصل ولا صناعة مشاهير ولا ساحات صراع ولا مشاهد تجويع ولا شعارات تهديد وترويع.
من هنا نفهم أن إنسان العصر الحديث قد وصل إلى مفترق طرق وبالتالي عليه إما الاستمرار بتحمل أعباء وتكاليف ومتطلبات الحياة العصرية في المدن وما قد يعاني خلالها من متطلبات وظروف اقتصادية مختلفة، أو التفكير بالعودة العكسية إلى القرى والصحاري والأرياف للتدبر والتأمل في الكواكب والنجوم بدلا من التدبر والتأمل في الكوارث والهموم، ثم بعد ذلك العودة الاختيارية مرة أخرى لمن يرغب إلى حيث يسمع ويشاهد ويتفاعل مع كل أحداث وقضايا العالم بما فيها من صراعات وتقلبات وتغيرات ومؤامرات وكوارث ومآسٍ عبر شاشة صغيرة لجهاز الجوال أو الآيباد الذي يحمله معه أينما ذهب وأينما حل وارتحل.
نجد كذلك بأن هناك في عالم اليوم من يستهدف حتى عقول الأطفال من خلال عرض محتوى غير لائق ولا يتفق مع مرحلته العمرية بحيث يجعل الطفل أسيرا لهذا المحتوى الذي يقدم له تحت مظلة الألعاب الإلكترونية وما قد تتضمنه هذه الألعاب من مشاهد لمعارك حربية أو سطو مسلح وغير ذلك مما قد يسهم في زعزعة الجذور المرتبطة بثقافة مسالمة وتربية سامية كما أوضحت في مقال بعنوان «أهمية الثقافة في حياة الأمم»، لاسيما وأن الطفل الصغير لا يعلم مصدر هذه الثقافة الخادشة أحيانا للحياء ولا يدرك أهداف ونوايا الذين قاموا بصناعتها وتصديرها إليه عبر وسائل متعددة.
لم يكن يعرف إنسان القرية قديما أي من تلك الألعاب المروعة والمقاطع المصورة لمشاهد المجاعة والحروب والصراعات والموبقات وغير ذلك من مآسٍ، بل إنه مع تحول القرية إلى مدينة ودخول التلفزيون لأول مرة باللونين الأبيض والأسود لم يكن يشاهد البشر آنذاك سوى المسلسلات البدوية ذات المحتوى المحافظ على التقاليد المتوارثة والأخلاق النبيلة، كما كان إنسان القرية يقضي وقت فراغه في المزارع أو يجوب التلال والجبال المحيطة بقريته ذهابا وإيابا ويمارس حتى الكتابة بالخط العربي على الرمال الذهبية الناعمة خلال جولاته وصولاته ما جعل الكثير من سكان القرى يتفوقون آنذاك في مقررات الخط والإملاء خلال دراستهم في مراحل التعليم العام قبل وصول الثقافات الأجنبية والتقنيات الحديثة إليهم وتحول العالم كله إلى قرية صغيرة بفعل التقدم التكنولوجي والتقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي.