د.عبدالله بن موسى الطاير
لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقف في وجه تكساس الجمهورية سوى كاليفورنيا الديموقراطية، والميدان متاح للمزيد من الاصطفاف على جانبي الجيشين الأحمر والأزرق. وأمريكا منقسمة، وعلى الرغم من أن الانقسام الحزبي متجذر في بنيتها السياسية، إلا أنها بلغت، حاليا، شأوا لم تنحدر إليه منذ الحرب الأهلية. لم يعد الديمقراطيون والجمهوريون يختلفون حول السياسات فحسب؛ بل يعيشون واقعا سياسيا وثقافيا، بل وحتى جغرافيا، مختلفا عما اعتادوا عليه. يتجلى هذا التشرذم بوضوح، وبتداعياته، في عملية إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية التي يفترض أنها تجرى على نحو طبيعي كل عشر سنوات مع إعلان نتائج التعداد السكاني، غير أنه تمت عسكرتها هذه المرة بفعل الانقسام السياسي الحاد بين الحزبين، في صراع لم يعد على مقاعد الكونغرس، بل على قواعد العملية الديمقراطية ذاتها.
يعود مصطلح «التلاعب بالدوائر الانتخابية» إلى عام 1812م، في ولاية ماساتشوستس، ومنذ ذلك الحين، استخدم كلا الحزبين هذه الأداة لترسيخ نفوذهما. ومع ذلك، فقد غذت التكنولوجيا المتقدمة والتحزب المفرط، شدة التلاعب المعاصر بالدوائر الانتخابية؛ فالبرامج المتطورة تتيح تقسيم الدوائر الانتخابية بدقة متناهية، واستهداف الناخبين بناء على التركيبة السكانية وتاريخ التصويت وحتى نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولاية تكساس شاهد معاصر، حيث هندس الجمهوريون خرائط تُرسّخ الأغلبية الجمهورية على المدى الطويل، ومثلهم يفعل الديمقراطيون في كاليفورنيا، والحبل على الجرار، والحسم قبل الانتخابات النصفية التي ستحدد نتيجتها ربما مستقبل أمريكا. يتوقع المتابعون للشأن الأمريكي أن النتيجة لن تكون توازنًا يخدم المنافسة بين الحزبين على أصوات الناخبين، بل سباق مسلح بالجغرافيا، والضحية فيه ستكون الثقة في العملية الديمقراطية برمتها.
قبل عقود، كان الديمقراطيون والجمهوريون يتنافسون في الدوائر الانتخابية المتداخلة، والتي غالبا ما كانت تحسم النتائج. أما اليوم، فقد تحولت الهوية السياسية إلى شكل من أشكال الولاء «القبلي» تميل فيه المناطق الحضرية بشكل كبير نحو الديمقراطيين، بينما تجنح المناطق الريفية نحو الجمهوريين، وتتحول الضواحي إلى ساحات معارك انتخابية حامية الوطيس. وفي هذا السياق المتأزم، تُعمّق محاولات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية الاصطفاف الحزبي، إذ تجمع الناخبون ذوو التوجهات المتشابهة معا لتشكيل دوائر انتخابية آمنة، قاضية على فرص المنافسة الحقيقية على أصوات الناخبين.
لا ينظر الباحثون في هذا الشأن إلى العواقب قريبة المدى التي ستنتج عنها في الانتخابات النصفية القادمة في نوفمبر 2026م، وإنما يرون أنها ممارسة متعدية إلى ما هو أبعد وأعمق. فالدوائر الانتخابية المتلاعب بها تنتج ممثلين أكثر تعصبا. هذه الديناميكية المتطرفة ستقضي على التوافق بين الحزبين، مما يقلل من التسويات، ويفاقم التحزب الذي يشل الكونغرس في واشنطن.
حروب إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية المسلحة بكل الذخائر القانونية والشعبوية تكشف حقيقة أن الانقسام الأمريكي ليس أيديولوجياً فحسب، بل هيكلي أيضاً. فالديمقراطيون والجمهوريون لا يتقاتلون على الحسم السياسي فحسب؛ بل يتحاربون على ساحة المعركة نفسها، إذ ستُشكل الخرائط التي تُرسم اليوم معالم الصراع السياسي لسنوات قادمة، مما يُعمق انعدام الثقة ويزيد من استقطاب أمة تعيش خلافا عميقا مع نفسها. ليس غريباً أن تشكل الهوة بين الحزبين معالم السياسة الأمريكية، إلا أن الاستقطاب الحالي يشبهه البعض بصدع زلزالي.
في تكساس، معقل الجمهوريين، وعلى الرغم من التنوع المتزايد في سكانها - 40 % منهم هسبانك، والمناطق الحضرية تميل إلى الديمقراطيين- إلا أن الخرائط الجديدة أضعفت قوة تصويت الأقليات؛ حيث حصل الجمهوريون على 24 من أصل 38 مقعدًا في الكونجرس في عام 2022، على الرغم من فوز الديمقراطيين بنسبة 45 % من الأصوات على مستوى الولاية، وفي العام ذاته، اعتُبرت أكثر من %80 من مقاعد مجلس النواب الأمريكي غير تنافسية، كنتيجة مباشرة للتلاعب في خرائط الدوائر الانتخابية.
لا تخطئ العين حدة الانقسام المحلي، إذ يعيش الجمهوريون والديمقراطيون في أمريكا في عزلة؛ متشرذمين على نحو متزايد جغرافيا وأيديولوجيا. وأمريكا على مفترق طرق، إما ديمقراطية يُحسب فيها كل صوت، أو ديمقراطية تُحدد فيها الخرائط الفائزين قبل إدلاء الناخبين بأصواتهم.