أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
المجموعة الثانية: أقوام ملحدة وقد أدرج في هذه المجموعة قوم نوح وعاد وثمود ولوط. وواضح أن القرآن حافظ في هذه المجموعة على التسلسل الزمني على الرغم من المزج في هذا السرد بين الزمن والموضوع، مما أدى إلى كسر هذا التسلسل بالفصل بين ما ورد في المجموعة الأولى وما جاء في المجموعة الثانية من أخبار الأقوام من نوح إلى شعيب.
ولهذا يعتبر هذا الترتيب الذي جاء في القسم الثاني ترتيباً بالموضوع على الرغم من احتواء هذا القسم لتسلسل زمني يستند على أصل عقدي. ويدعم هذا الاستنتاج نص قرآني تكرر ذكره مع كل قوم ذكروا في هذه المجموعة، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} (67) سورة الشعراء، إذ قيل هذا النص في حق قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود ثم عقب ذلك بقوم لوط الذين قال فيهم عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، ثم عرج بعد ذلك على قوم شعيب وهكذا دواليك.
الأنموذج الثاني: سورة العنكبوت (29) الآيات (14-40) مكية.
ترصد سورة العنكبوت في الآيات المبينة أرقامها أعلاه أخبار الأنبياء والرسل الذين أنجاهم الله من العذاب الذي أصاب أقوامهم. وقد رتبت الأقوام في هذه الآيات من السورة المعنية إلى مجموعتين بناءاً على لفظة «النجاة» إذ صرحت بعض آيات هذه السورة بنجاة الرسل من العذاب الذي حل بأقوامهم وسكتت عن التصريح بذلك في البعض الآخر من الرسل. فشملت المجموعة الأولى نوحاً وإبراهيم ولوطا متخطية الآيات في هذه المجموعة عاداً وثمود زمنياً، أما المجموعة الثانية فشملت مدين وعاد وثمود ليختتم الترتيب بفرعون، فَأُجِّل ذكر عاد وثمود التي تأتي عادة بعد قوم نوح وقبل قوم إبراهيم في الترتيب التاريخي لتوضع في ترتيب آخر غير الترتيب الذي شمل نوحا وإبراهيم ولوطا، فجاء الترتيب لذكر الأقوام في هذه السورة على النحو الآتي: نوح وإبراهيم ولوط ومدين وعاد وثمود ثم فرعون.
لا شك أن هذا السرد الآنف الذكر أعلاه هو ترتيب غير زمني، وإن ظهرت فيه دالة الترتيب الزمنى جزئياً.
ويعود السبب في ذلك إلى ربط الاستقراء إما بنجاة الرسل من العذاب الذي حاق بأقوامهم تارة أو السكوت عن ذلك تارة أخرى، فقد قال عز وجل مثلاً في نوح {فَأَنجَيْنَاهُ}، وفي لوط {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} (33) سورة العنكبوت، كما نجى بقية الرسل كشعيب وهود وصالح وموسى من العذاب الذي أصاب أقوامهم، لكن القرآن في هذه السورة لم ينص على نجاتهم صراحة كبقية الرسل الذين تضمنهم سرد الآيات في هذه السورة.
كذلك رتبت الأقوام في هذه السورة بناءاً على شمولية العذاب أو محليته فأخذ الله قوم نوح بالطوفان الذي شمل المعمورة، بينما أخذ قوم لوط بعذاب أختص بمكان إقامتهم فقط، أما فرعون وقومه فقد أخذوا بظاهرة محلية ألا وهي الغرق في اليم. كما أهلكت عاد بريح صرصر عاتية بينما أهلكت ثمود بالطاغية.
وبناء على ما سبق ذكره آنفاً فقد اعتمد الترتيب في هذه السورة إذن على مدى شمولية العذاب ومحليته وليس على شدة العذاب وقوته، كما هو الحال في ترتيب موضوعي آخر ورد في شأن هذه الأقوام في سور أخرى كالحاقة مثلاً. ويعد هذا الترتيب ترتيباً حركياً ديناميكياً يندرج منهجياً تحت أساليب العنقدة النوعية التي تُجمَعُ بوساطتها حالات المشاهدات في هيئة عناقيد هرمية الشكل بحيث يضم كل عنقود في الهرم الحالات الأكثر تشابهاً أو تجانساً من الحالات المدرجة في العناقيد المناظرة الأخرى التي تتألف منها البنية الهرمية قيد النظر.
الأنموذج الثالث سورة ص (38) الآيات (12-13) مكية.
قد رتبت أقوام الجزيرة العربية وما جاورها في الآيات المبينة أرقامها أعلاه من سورة «ص» ترتيباً موضوعياً تم فيه فصل ثمود عن عاد التي تأتي في معظم الآيات القرآنية متسلسلة جيوتاريخانياً بعد نوح ومتقدمة على ثمود، كما نجد أن قوم فرعون في هذه الآيات من سورة «ص» قد قدموا في هذا الترتيب على ثمود وقوم لوط نتيجة لما عرف عن هؤلاء القوم من تكذيب واضح ومعلن لأنبيائهم ومشاطرة بينة للعداء والتحدي والاستخفاف بدعوة الرسل. ولهذا أدرجت أقوام مثل نوح وعاد في سياق ترتيبي شمل قوم فرعون ربما كنتيجة لتجانس فكري أو لشراكة عقدية بين هؤلاء الأقوام.
كما رُتبت الأقوام في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة والله أعلم وفق سياق تاريخي زمني حزبي عقدي متأصل في نفوس أولئك الأقوام عبر الزمن في الأغلب الأعم.
- الأنموذج الرابع: سورة ق (50) الآيات (12-14) مكية.
بدأت الآيات المدونة أرقامها أعلاه من سورة «ق» بذكر قوم نوح ثم قدم أصحاب الرس على قوم ثمود وتقدمت ثمود على عاد وعطفت على أصحاب الرس، كما سبق ذكر قوم فرعون ذكر أخوان لوط، ثم اُتبع هذا الترتيب بذكر أصحاب الأيكة وقوم تبِّع. ويبدو لي أن دراسات متعمقة تخصصية مستفيضة مستقبلية لهذه السورة قد تكشف ترتيبا قد تأسس ربما بناءً على تجانس غير ظاهر بين أصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط من ناحية وبين أصحاب الأيكة وقوم تبع الذين أجّل ذكرهم لآخر الآية 14 من ناحية أخرى.
وقد تكون أسس هذا التجانس الذي قد تكشف عنها تلك الدراسات فكرية أو سلوكية أو عقدية أو حزبية، وهي أمور بلا شك جديرة بالبحث والاستقصاء المعرفي رصداً لأوجه المفارقة والمقاربة في الترتيب قيد النظر في هذه السورة الكريمة.
الأنموذج الخامس سورة الذاريات (51) الآيات (7-46) مكية.
يستند الترتيب الموضوعي لبعض الأقوام في الجزيرة العربية وما جاورها في سورة الذاريات على محاور ارتكاز مرجعية منهجية وطرق أسلوبية دقيقة لتدوير الأحداث استقرائياً (الآيات من 7 إلى 23). فيبدأ محور الارتكاز المرجعي الأول في السورة بقوله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} (7) سورة الذاريات، والثاني بقوله عز وجل: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (20) سورة الذاريات.
أما ثالث تلك المحاور فيمثله قوله عز وجل: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22) سورة الذاريات، بينما تمثل المحور الرابع الآية التي قال تعالى فيها: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (23) سورة الذاريات.
ونتيجة لما تقدم أزعم أن الترتيب الموضوعي لأقوام الجزيرة العربية وما جاورها في هذه السورة قد جاء متسقاً مع طبيعة ترتيب تلك المحاور المذكورة أعلاه ومساقاتها المنهجية التي تقدمت فيها السماء أولاً، ثم الأرض ثانياً، فالسماء ثالثاً لينتهي ذلك المساق رابعاً بالجمع بين السماء والأرض وفقاً للترتيب النماذجي التالي (سماء، أرض، سماء، سماء أرض). وحسب هذ المساق النماذجي المذكور آنفاً رتبت في رأيي أقوام الجزيرة العربية وما جاورها موضوعياً من الآية 33 إلى الآية 46 من سورة الذاريات وفقاً لمصدر العذاب على النحو الآتي: قوم لوط وقد عذبو بحجارة من طين ذات مصدر سماوي، ثم قوم فرعون الذين أهلكوا بالغرق في اليم ذي المصدر الأرضي السمات، أما قوم عاد وثمود فقد عذبوا بالريح العقيم والصاعقة ذوات المصدر السماوي لكل منهما على التوالي، أما الطوفان الذي قضى على قوم نوح فيعد عذاباً يجمع بين المصدرين السماوي والأرضي السمات. وهو أمر يعكس بجلاء مدى اتساق ترتيب أولئك الأقوام موضوعياً في هذه السورة مع محاور الارتكاز المرجعية وطرق التدوير الاستقرائية الأحداث وفقا للصيغة التتابعية الآنفة الذكر (سماء، أرض، سماء، سماء أرض).
الأنموذج السادس: سورة الحاقة (69) الآيات (10-4) مكية.
لقد تقدمت ثمود على عاد في الآيات المرقمة من (4 إلى 8) من سورة «الحاقة» بناءاً على شدة العذاب وسرعته تحديداً، أي بناء على الطبيعة الفيزيائية لنوع العذاب الذي أصاب ثمود وعاد؛ فثمود أهلكت بالطاغية وهي الصيحة المجاوزة للحد في شدة الصوت لتقارب ترددات تموجاتها بينما أهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية أي الشديدة الصوت والبرودة أحياناً ولكنها مع ذلك هي بكل تأكيد أقل بكثير من شدة حدة عذاب صوت الطاغية. إضافة إلى ذلك فإن ترتيب الأقوام في الآيات المعنية من هذه السورة لم يرتبط بحسب نوع العذاب وشدته فحسب، بل ارتبط أيضاً بسرعة العذاب وشموليته، فعذاب الطاغية أسرع تأثيراً وأشمل من عذاب الريح التي سلطها الله على قوم عاد عدة أيام. كذلك تم ترتيب الأقوام في هذه السورة اعتماداً على البعد الحراري للعذاب، فالطاغية صاعقة سريعة حارة والريح بطيئة باردة مما يعنى أن الترتيب اعتمد هنا على سمات ثرموديناميكية محضة. ولهذا قدم قوم ثمود على قوم عاد في هذه السورة لكون عذاب قوم ثمود ذا سمة حرارية أشد بكثير فيزيائياً من درجة حرارة الريح التي عذب بها قوم عاد.
وقد تكرر هذا المشهد القرآني في آية أخرى من هذه السورة فتقدم ذكر قوم فرعون على من قبله (الآيات 10-11). والسبب والله أعلم بمراده أن قوم فرعون أغرقوا باليم الذي هو أسرع من عذاب ماء طوفان نوح، إذ انشق البحر على فرعون وقومه فكان كالطود العظيم الذي أطبق عليهم فجأة وبسرعة مباغتة بينما أخذ الطوفان فترة طويلة لتمتلئ الأرض بالماء وفترة لتفيض وزمناً طويلاً نسبياً ليغيض الماء وتستوي السفينة على الجودي.