عبدالوهاب الفايز
هذا هو السؤال الكبير: هل نستطيع خفض نسبة البطالة إلى أقل من 5% بحلول عام 2030؟
أجزم أننا نستطيع، فالخير في بلادنا كثير، والإمكانات الكبيرة في الاقتصاد السعودي تتيح توسيع فرص العمل للسعوديين مع تحسين مستوى الدخل. والآن، ومع تراجع الإيرادات النفطية، ربما نكون في الفترة الأنسب لاكتشاف الفرص الذهبية الكامنة في اقتصادنا، وهذا ما تعلمناه من التجارب التي نمر بها في فترات الرواج والانحسار للنشاط الاقتصادي، فالأجهزة الحكومية -وحتى الخاصة- تعمل بشكل أفضل حين ترشيد الإنفاق، فهنا (تبرز مواهب القيادة والإدارة)، خصوصاً: اكتشاف قدرات الموارد البشرية، وإمكانات اقتصادنا.
مع توسع برامج الرؤية، تبرز لدينا قطاعات هي (كنز) للوظائف. مثلا، قطاع السياحة والضيافة (بما في ذلك السياحة الدينية والبيئية) كأحد أكثر القطاعات الاقتصادية قدرة على خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة. ويندرج تحته: الفنادق، الإرشاد السياحي، النقل، المطاعم، الفعاليات، والسياحة البيئية.
ويليه قطاع الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر، الذي يشمل الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الهيدروجين الأخضر، إدارة النفايات وإعادة التدوير، إضافة إلى الاقتصاد الأزرق البحري. هذا القطاع يُولّد وظائف في البحث والتطوير، والتصنيع، والتشغيل والصيانة، ويسهم في بناء صناعة جديدة بالكامل للاقتصاد الوطني.
ثم يأتي قطاع التقنية والاقتصاد الرقمي، حيث تستثمر المملكة بكثافة في التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، ومراكز البيانات، والتجارة الإلكترونية. وهو من أعلى القطاعات نموًا عالميًا، وهناك تقديرات تشير إلى أن الاقتصاد الرقمي قد يسهم بأكثر من 19% من الناتج المحلي السعودي بحلول 2030، مع توقعات بخلق عشرات الآلاف من الوظائف للشباب في مجالات البرمجة، والأمن السيبراني، والتحليلات الرقمية.
لذا، ليس هناك ما يُقلق بشأن مستقبل الوظائف إذا تطورت برامج التوطين وتم تبني تصورات وآليات نوعية جديدة، أي إذا وسّعنا دائرة الرؤية وخرجنا من الصندوق التقليدي لتوسيع سوق العمل.
لتحقيق مكتسبات سريعة، بيدنا اليوم قطاع البيئة المعني بحماية التنوع البيئي والمحميات الطبيعية. فمع تسارع نمو مبادرات هذا القطاع ومشاريعه، بدأت تبرز الفرص الواعدة بعدما وضعت المملكة حماية البيئة ضمن أولوياتها الاستراتيجية في إطار رؤية 2030. وهكذا تحولت البيئة إلى قطاع اقتصادي واعد ومولّد للوظائف.
هذا القطاع كان يحتاج إلى إعادة تأهيل وهيكلة ومعالجة المشكلات المتراكمة عبر العقود الماضية، وقد تحقق الكثير من ذلك الآن.
وحتى نوسع قصص النجاح، نحتاج إلى استثمار هذه المكتسبات في جبهة توليد الوظائف، خاصة في منظومة الحياة الفطرية والمحميات الطبيعية، وفي الاقتصاد الأزرق ثمة مكتسبات للوظائف مع توسع حماية النظم البيئية وتنميتها، خصوصًا البحرية، فهذه هي الأساس للاقتصاد الأزرق.
تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الأزرق غني بفرص الاستثمار والوظائف للشباب، غير أن الاستفادة منه تتطلب تكثيف الجهود لحماية الموارد البحرية، وتعزيز البرامج العلمية والتنموية التي تربط بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، مثل توظيف الجوالين المؤهلين وفق أفضل الممارسات العالمية.
من الأنشطة التي تضررت بسبب التدهور البيئي صيد الأسماك، الذي كان مصدرًا رئيسيًا للتجارة والعمل على شواطئ المملكة. وقد بدأت وزارة البيئة خطة لتطوير هذا القطاع، تشمل إنشاء 42 مرفأ صيد في مختلف مناطق المملكة، متوقع اكتمالها بحلول 2030، مما يولد آلاف الفرص الوظيفية.
لكن نجاح هذه الجهود يتطلب مواجهة تحديات بيئية مثل الأنواع البحرية الغازية التي تنتقل عبر حركة الشحن أو أنشطة الاستزراع السمكي، لما تسببه من أضرار على النظم الساحلية وخسائر اقتصادية مزمنة.
لتهيئة شواطئ المملكة للصيد الآمن والوفير، يتعاون المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) في أبحاث ميدانية واسعة، جمعت أكثر من 10 آلاف عينة بحرية من 34 موقعًا، وكشفت نحو 200 نوع غازي محتمل. ويعتمد المشروع على تقنيات حديثة مثل تحليل الحمض النووي البيئي (eDNA)، لإنشاء أنظمة إنذار مبكر ترصد التغيرات البيئية بدقة، وتؤسس قاعدة بيانات وطنية للتنوع البيولوجي.
ولتوطين الخبرات، ينظم المركز ورش عمل لتدريب الكوادر الوطنية على هذه التقنيات، بما يسهم في إعداد جيل سعودي قادر على قيادة قطاع البيئة مستقبلًا. وهذه المشاريع العلمية تُعزز استدامة السواحل السعودية وتحصّن مواردها الاقتصادية.
ولأهمية النظم البيئية البحرية والبرية، يعمل المركز أيضًا على برامج شاملة لرصد الحياة في البحر الأحمر والخليج العربي، تشمل دراسة الكائنات البحرية (الدلافين، السلاحف، الطيور البحرية)، ومراقبة صحة الشعاب المرجانية والحشائش البحرية وأشجار المانغروف.
كما طور المركز أنظمة لحماية المحميات الطبيعية وإدارتها، وأطلق المعيار المهني الوطني لجوالي المحميات، المبني على متطلبات المملكة ومعايير الاتحاد الدولي لصون الطبيعة واتحاد الجوالة.
هذا المعيار يضمن تأهيل الجوالين وفق أعلى المستويات الدولية، ومن المتوقع أن يغطي الاحتياج الوطني بحلول 2030، تماشيًا مع التزام المملكة بحماية 30% من مساحتها البرية والبحرية.هذه المحميات الطبيعية ستكون مستقبلًا حاضنة للأنشطة الاستثمارية والترفيهية والسياحية، مما يجعلها مصدرًا جديدًا للوظائف والتنمية.
المنجزات البيئية في المملكة تتجاوز أثرها المحلي إلى العالمي. محليًا، تسهم في تعزيز استدامة الموارد، وحماية الشواطئ، وتقليل المخاطر التي تهدد الصيد والسياحة الساحلية.
عالميًا، تقدم صورة السعودية كدولة مسؤولة عن بيئتها، ملتزمة ببرامجها المناخية، ومشاركة بفاعلية في مبادرات مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر.
كما أن حماية الشعاب المرجانية النادرة في البحر الأحمر، التي تُعد من الأكثر مقاومة لتغير المناخ عالميًا، تمنح المملكة ميزة في (الدبلوماسية البيئية)، وتعزز مكانتها كشريك مؤثر في صياغة مستقبل الاقتصاد الأزرق عالميًا.
هذه الجهود ليست مجرد حماية للطبيعة، بل هي رسالة تنموية تقول إن السعودية قادرة على الجمع بين استثمار مواردها الطبيعية وحمايتها للأجيال المقبلة.
إنها رسالة تمنح المملكة قوة إضافية في الداخل، وجاذبية أكبر للاستثمار والسياحة والشراكات الدولية في الخارج.
وبذلك يصبح قطاع البيئة والحياة الفطرية ركيزة للتنمية، والاقتصاد الأزرق مصدرًا للوظائف والازدهار، والسعودية نموذجًا عالميًا في التوازن بين حماية الطبيعة وصناعة المستقبل.