منال الحصيني
كانت المرأة السعودية تطرز حضورها في الذاكرة منذ قديم الأزل بوسائل الفن البسيطة المتعارف عليها آنذاك... نقش على الجدران وأهازيج في أيام الفرح وحكايات في ليالي السمر فلم يكن ذلك لهوا أو تفاصيل عابرة، لكنها محاكاة للبقاء ومقاومة تنفي الغياب.
وها هي اليوم تعانق التشكيل والمسرح والموسيقى وذلك لم يكن ابتداء من الصفر لكنها تستحضر ماضيها لتبني ملامح الحاضر بشكل جديد يحاكي العالم دون أن ينافي جذورها.
فما كان بالأمس ألوانا على جدران تزين بها جدران المنازل بألوان زاهية تعبر عن الهوية أصبح جزءاً من التراث المسجل في (اليونسكو) وأعني بذلك «القط العسيري» الذي لم تكن ألوانه مجرد لمسة جمال أعمق من كونه حواراً بصرياً بين المرأة ومجتمعها نُقش على الجدران بألوان زهية أشبه بأغنيةً بصريةً تروي جذور الهوية.
ولم يكن حضور المرأة السعودية في التشكيل مقتصراً على تلك المنطقة فهي من لونت خريطة الوطن بأكملها بتنوع جغرافي ثقافي شمالاً وشرقاً وغرباً لتحط رحالها في نجد قلب الوطن النابض ليتناغم إبداعها بروح الصحراء مستلهمةً من سكون الكثبان واتساع الأفق فنوناً تشكيلية تحمل مزيجاً من الصلابة والنعومة.
فاليوم عندما تبرز لوحة لـ»منال الضويان» أو»شاليمار شربتلي» في معارض عالمية فهي تحمل بلا شك صدى تلك الجدران القديمة بطابع لوحات حديثة وما هي إلا استمرار لحوار أزلي بين المرأة والمكان وإصرارها على أن تلوّن الواقع لتُبدي جمال الحياة بشيء من هويتها لأن تقول (كنت هنا... وما زلت).
فما كان في الماضي يزين جدران بيت أصبح يضيء صالة عرض.
وما كان من حكايات تُسرد في ليالي دافئة اختلط بها الخيال بالذاكرة كانت أشبه بمسرح مصّغر تتبدل فيه الأصوات.
فاليوم حينما تصعد المرأة السعودية على خشبة المسرح فهي تستعيد هذا الدور بصوت أقوى يفتح لها آفاقاً لتروي حكاياتها من جديد ولكن بلغة الفن الحديث الذي يحفظ الجوهر بشكل معاصر متجدد.
وأما عن تلك النصوص الشفهية التي كانت ترددها النساء في المجتمع السعودي لتحمل معها شيئا من ملامحه وقيمه لم تكن يوماً مجرد أنغام، بل (أهازيج) تحمل معها مذكرات جماعية أشبه ما تكون كسجل يومي لتخفيف مشقة العمل وجعل اللحظة أكثر مرونةً.
فالأفراح وللوداع والرجوع نصيب من هذه (الأهازيج) النسائية فهي بمثابة مسرح غنائي مفتوح تلتف حوله النساء ليبقى شاهداً على تجذر وعمق دور المرأة الثقافي والفني في حياة المجتمع السعودي منحته بعداً إنسانياً.
واليوم حين تعتلي إحداهن خشبة المسرح لتعزف لحن آلة موسيقية أو تغني مقطوعة مستوحاة من الأهازيج القديمة، فهي لم تبتكر شيئا من فراغ لكنها تستحضر ألحان الماضي لتعيد صياغتها بروح حاضرة تنير الحواس وتلائم الذوق الحديث، ولكنها وبكل تأكيد يجب أن تراعي الذوق العام وتلتزم بالحدود الاجتماعية كي تصبح جسراً بين الماضي والحاضر.
كون الموسيقى اليوم ليست مجرد صوت أو لحن، بل أعمق من ذلك هي الامتداد للحياة الاجتماعية وبذلك وجب الحفاظ بها على التراث باحترام تؤكد فيه المرأة دورها في إبراز جمال الثقافة السعودية بطريقة متوازنة يغلفها الرقي والكثير من الاحتراز، فرحلة المرأة السعودية مع الفن بجميع أشكاله هي ذاتها بدأت بالأمس وتسير إلى اليوم لتقول للجميع عبرها إنها ذاكرة لا تُمحى ومستقبل لا يتوقف.