د. داليا عبدالله العمر
منذ فجر التاريخ الديني للإنسان، كان اسم الخالق محورًا عميقًا في التجربة الروحية. وكل شريعة جاءت تحمل رسالتها الخاصة، لكن المدهش أن الأسماء العظمى لله في الشرائع الثلاث الكبرى، الإسلام والمسيحية واليهودية، تلتقي في ملمح عجيب قلّما يلتفت إليه الناس: كلها تُنطق من غير حاجة إلى ضمّ الشفاه. المسلمون يلهجون صباح مساء باسم الله، والآراميون المسيحيون يقولون في صلواتهم ألاها، واليهود رفعوا في نصوصهم المقدسة اسم يهوه. أسماء متباعدة في ظاهر اللغة، لكنها في حقيقتها تنبع من جذر واحد هو «إل/إله»، وتشترك في خفة النطق وعمق الدلالة.
حين يتلفظ الإنسان بكلمة الله أو ألاها أو يهوه، يكتشف أنها تخرج بانسياب عجيب. لا يحتاج المرء أن يضم شفتيه كما يفعل مع الميم أو الباء أو الفاء، ولا أن يتكلف في مخارج صعبة. الصوت ينساب مباشرة من الحلق واللسان، وكأنه جزء من النفس ذاته. وقد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى مجرد تفصيل لغوي، لكنه في الحقيقة يحمل بعدًا رمزيًا عميقًا. فالاسم الذي لا يحتاج إلى الشفاه يصبح أقرب إلى التنفس الطبيعي: سهل، مكرر، حاضر دائمًا، لا يتوقف إلا بتوقف الحياة نفسها. وكأن الأديان جميعًا اتفقت دون اتفاق أن الاسم الأعظم للخالق ينبغي أن يكون خفيفًا على اللسان، قريبًا من القلب، لا يحتاج إلى جهد ولا تكلف.
اليهود قدّسوا اسم يهوه إلى درجة أنهم امتنعوا عن نطقه علنًا، خوفًا من أن يخطئوا فيه فيقعوا تحت اللعنة كما ورد في نصوصهم. لذلك كانوا حين يقرؤون التوراة ويصلون إلى يهوه، يستبدلونه بلفظة «أدوناي» أي الرب، أو بقولهم «هشِّم» أي الاسم. وهكذا تحوّل الاسم من حضور يومي إلى سرّ غامض يحيط به الرهبة.
أما المسيحيون الآراميون، فقد ظل اسم ألاها يتردد في كنائسهم حتى اليوم، وهو نفس الاسم الذي كان السيد المسيح عليه السلام يدعو به ربه. وفي لغته البسيطة، بقيت الكلمة قريبة من أصلها العربي «إله»، لتذكّر بوحدة الجذور بين الشعوب السامية. وفي الإسلام، أصبح اسم الله محور العبادة والذكر، يتردد في الأذان خمس مرات كل يوم، وتفتتح به الصلوات وتختتم به الأذكار والدعوات. ومن بين مليارات المسلمين، لا يخلو يوم من مئات الملايين من الأصوات التي تلهج بهذا الاسم، حتى غدا الأكثر حضورًا وانتشارًا في تاريخ البشرية.
ليست هذه المصادفة الصوتية أمرًا عابرًا، بل جسر خفيٌ يوحّد التجربة الروحية للإنسان عبر الشرائع.
فالأسماء الثلاثة الكبرى تمثل في جوهرها التقاءً لغويًا ودينيًا وروحيًا في آن واحد، وما يزيد الأمر عمقًا أن هذه الأسماء تكاد تكون أسماء القلب قبل أن تكون أسماء اللسان. فالإنسان قد يذكر الله بلسانه فيغفل قلبه، لكن حين ينطق بهذه الأسماء الخفيفة يشعر أنها أقرب إلى أن تكون أنفاسًا صافية تخرج من داخله. ولهذا التفت المتصوفة والفلاسفة إلى أن الذكر الحقيقي لله لا يحتاج إلى حركة الشفاه بقدر ما يحتاج إلى حضور القلب.
وهنا نلمس جوهر السر: أن الاسم الذي لا يحتاج إلى الشفاه إنما يرمز إلى أن الله يُذكر بالروح قبل أن يُذكر بالحروف. هو حاضر في كل نفس، في كل لحظة صمت أو تفكر. فكما أن التنفس لا ينقطع عن الإنسان حتى وهو نائم، كذلك ينبغي أن يكون ذكر الله حاضرًا دائمًا في القلب ولو لم تتحرك به الشفاه. ولعل هذا هو المعنى الأعمق لقداسة هذه الأسماء وانتشارها: أنها أسماء لم تقف عند حدود اللغة، بل تجاوزتها إلى مقام الحضور. حضور الله في وجدان الإنسان، وحضور الإنسان في ذكر خالقه، بلفظ خفيفٍ يختصر المسافة بين الأرض والسماء.