خالد محمد الدوس
في خضم ضغوط الحياة وتعقيداتها وفي إطار التحولات الثقافية والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها عالمنا اليوم.. خاصة مع التقدم التكنولوجي والانفجار التقني.. يبرز (الوعي) كجوهرة ثمينة تضئ الظلمات وترشد السالكين وتبني صروح الوجود الإنساني الراقي.
فالوعي -حسب معطيات علم النفس الاجتماعي- ليس مجرد إدراك بسيط للحواس.. بل هو حالة متقدمة من الفهم والانتباه والتأمل العميق للذات وللآخرين وللعالم المحيط، إنه البوصلة الداخلية التي تحدد مسار حياتنا وتبني قيمنا وتشكل بالتالي مصيرنا في عملية التفاعل الاجتماعي اليومي ونتائجه. وبالطبع تتجلى أهميته المعيارية في الحياة العامة.. كونه حجر الزاوية في بناء الفرد والمجتمع على حد سواء. ويرى علماء النفس المعرفي أن الوعي أساس للنمو الشخصي والتحول الإيجابي نحو فهم الذات وتقدير الأمور بعقلانية واتزان، فهو (المرآة) التي نرى فيها دوافعنا الحقيقية، ومشاعرنا المكبوتة وتحديد أنماط تفكيرنا المتكررة، ونقاط قوتنا وضعفنا، وبدون هذا الفهم العميق للذات، تصبح حياتنا سطحية.. هامشية.. مليئة بالصراعات الداخلية، وضعيفة في العلاقات الاجتماعية!
ومع التحديات اليومية في واقعنا المعاصر يمنحنا الوعي القدرة على مراقبة مشاعرنا دون اندفاع عاطفي، أو انجراف انفعالي! بحيث نتعرف على الغضب قبل اندلاعه، وعلى القلق الاجتماعي قبل استفحاله، ومعروف -علميا- أن القلق المتطور أخطر ما يهدد الجهاز المناعي!! كما يساعدنا الوعي على بناء السعادة وإشعال قناديل الفرح فنعززها بهذه (المسافة الواعية) في تلك الاتجاهات النفسية والاجتماعية والعاطفية، وبالتالي يمنحنا الوعي أروع معاني التعامل مع ردود الفعل بعقلانية مما يحفظ علاقاتنا الإنسانية ويعزز سلامنا الداخلي، ويساعنا في اتخاذ قرارات تتماشى مع قيمنا الأصيلة وأهدافنا الحقيقية.
كما أن الوعي وممارسته اليومية كمنهج حياة.. يكسبنا التعلم المستمر.. فالفرد الواعي هو متسائل باستمرار.. منفتح على التجارب الجديدة، وقادر على استخلاص الدروس والفوائد والفرائد من النجاحات والإخفاقات على حد سواء.. إذ يجعله (اسفنجه) تمتص المعرفة من كل موقف وحدث مما يضمن نمواً وتطوراً لا يتوقفان.
بعض الخبراء في علم الاجتماع التربوي يرون أن (الوعي) حجر أساس في بناء العلاقات الاجتماعية وتنمية الروابط الإنسانية.. ففي عملية التواصل الفّعال عندما نكون واعين بمشاعرنا وكلماتنا وتأثيرها في على الآخرين نصبح مستمعين أفضل ومتحدثين أكثر وضوحا وتعاطفا، لكون الوعي يساعدنا على تجاوز سطح الكلمات لفهم السياق والمشاعر الكامنة مما يقلل من سواء الفهم ويعزز بالتالي روح التضامن الاجتماعي، والروابط الإنسانية، وتنمية اتجاهاتها الإيجابية في المجتمع.
ولذلك تبقى (قيم الوعي) محركا للتقدم المجتمعي والإحساس بالمسؤولية المشتركة نحو المحافظة على المكتسبات الوطنية، فالوعي البيئي -مثالاً- مطلوبا للحد من الممارسات العابثة والسلوكيات الجائرة ضد البيئة، كما أن الوعي البيئي صمام أمان يسهم في تقليل مظاهر التلوث البيئي، وفي عالم الثورة الرقمية وتحدياتها الثقافية الرهيبة تبرز قيم الوعي في مواجهة تحولات العصر الرقمي، ومعروف أن وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين تتيح تبادل الأفكار والمعرفة، لكنها تنشر الأخبار الكاذبة، فضلاً عن حالات الإدمان والهوس المصاحب لها من بعض المستخدمين، وهنا يصبح الوعي الرقمي «مناعة معرفية» تمـّكن الأفراد من فلترة المحتوى ومواجهة التظليل الى جانب تقليل أوقات الاستخدام المفرط للتقنية بحكمة وإدراك. وهكذا.
وبالطبع الوعي كجسر للمستقبل ليس ترفا فكرياً أو رجماً بالغيب.. بل هو «الدرع» الذي يحمي المجتمع المعاصر من التصدع والصراع في عصر التحولات التكنولوجية والانفجار التقني.. تقوده ثورة الذكاء الاصطناعي، وبالتالي فإن مستقبل المجتمعات سيتحدد بقدرتها على تحويل (الوعي) من مفهوم نظري الى ممارسة يومية ومنهج حياة في البيئة الأسرية، وداخل المناخ المدرسي.. وفي الفضاء الرقمي.. وفي الحوار الإنساني العابر للثقافات.. وفي الحياة عامة.