مرت أشهر يترقب فيها الأشخاص حول العالم قرار الفيدرالي الأمريكي بشأن خفضه أو محافظته على سعر الفائدة، و من الملاحظ ان هناك تحولا دقيقا لكنه عميق يجري في الأسواق المالية العالمية، وهو تغيير يعيد تشكيل كثيرا من القرارات الاقتصادية بدءًا من رغبات المستهلكين وصولاً إلى خطط الاستثمار لدى الشركات متعددة الجنسيات.
فبعد نحو خمسة عشر عامًا من وفرة السيولة، وسعر الفائدة المنخفض للغاية، وتدفق الأموال، يواجه الاقتصاد العالمي اليوم عصرًا من رأس المال الباهظ الثمن والائتمان المشدد. لم يأتِ هذا التغير بين عشية وضحاها. ففي أعقاب الأزمة المالية عام 2008، ومرة أخرى بعد جائحة كوفيد-19، أغرقت البنوك المركزية اقتصاداتها بكميات غير مسبوقة من السيولة. وكان السبب واضحًا وهو: منع الركود، والحفاظ على الوظائف، وتجنب انهيار الطلب.
انخفضت أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر في معظم دول العالم المتقدم، بينما واصلت الأسواق الناشئة الاقتراض بتكاليف منخفضة للغاية لتشجيع الاستهلاك والاستثمار.
وقد ساهمت هذه الفترة من سهولة التمويل في تمويل طفرة قروض الإسكان العقارية، وسجلت قروض المستهلكين والسندات التجارية والأسواق المالية العالمية أرقامًا قياسية غير مسبوقة.
لكن بحلول عام 2022 انقلبت الأمور رأسا على عقب، فقد أدى اجتماع عدة عوامل منها :تعطل سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع أسعار الطاقة لمستويات قياسية، وتزايد التوترات الجيوسياسية وتوج ذلك بغزو روسيا لأوكرانيا ـ إلى انفجار في معدلات التضخم التي لم تشهدها الأسواق منذ عقود، وقد تعاملت البنوك المركزية مع ذلك من خلال أقوى موجة من تشديد السياسة النقدية منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
قاد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي موجة رفع أسعار الفائدة حيث رفع الأسعار من مستويات قريبة من الصفر في أوائل عام 2022 إلى نطاق يتراوح بين 4.25%-4.5% بحلول منتصف عام 2025. كما رفع البنك المركزي الأوروبي معدل تسهيلات الإيداع إلى 3.75% قبل البدء بالتخفيض بمقدار 25 نقطة أساس في يونيو 2025، وقامت الأسواق الناشئة من البرازيل إلى مصر بتنفيذ زيادات أكثر حدة لدعم العملات الوطنية والحد من التضخم المستورد.
ووفقاً لـOECD (2024a)، فإن متوسط تكاليف الاقتراض العالمية حالياً أعلى بما يتراوح بين 300-400 نقطة أساس على السندات السيادية وسندات الشركات مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة.
الحسابات الجديدة للإقراض
من أكثر المتأثرين برفع أسعار الفائدة :
غيّرت هذه الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة المشهد المالي بشكل جذري لملايين الأشخاص. ففي الولايات المتحدة، ارتفع متوسط الأقساط الشهرية للقروض العقارية بأكثر من 60% منذ أواخر عام 2021، ويعود ذلك أساساً إلى الزيادات الحادة في معدلات الرهن العقاري، مما أدى إلى تراجع القدرة على تحمل التكاليف لشريحة كبيرة من المشترين الجدد للمنازل2023؛ أما في أوروبا فقد ارتفعت تكلفة ديون الشركات بشكل كبير أيضاً في ظل السياسات النقدية الأكثر تشدداً، مما أدى بالكثير من الشركات إلى تأجيل الاستثمار أو إعادة النظر في خطط التوسع (European Central Bank, 2024).
وتعتبر الأسواق الناشئة أكثر عرضة للخطر، حيث اقترضت العديد من الشركات الصغيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بمعدلات فائدة متغيرة عندما كان الائتمان منخفضا.
والآن يواجه هؤلاء المقترضون أقساطًا شهرية أعلى بكثير، مما يزيد من الضغط على ميزانياتهم الهشة أصلًا. ووفقًا لـ OECD (2024b)، فإن نسب ديون الأفراد في معظم الاقتصادات المتقدمة قد وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ ما قبل الأزمة المالية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تشير تقارير إقليمية مختلفة إلى وجود اتجاه تصاعدي واضح في حالات التأخر في السداد والقروض المتعثرة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
يؤثر هذا الضغط بشكل مباشر على ميزانيات البنوك العمومية. ومع زيادة التخلف عن السداد، تتشدد البنوك أكثر في منح الائتمان لتغطية الخسائر المستقبلية، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة.
وقد أشار تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية للبنك الدولي لعام 2025 إلى أن نحو 45%من البنوك في الأسواق الناشئة قد شددت معايير الائتمان خلال العام الماضي وهو مؤشر واضح على الحذر.
تغير سلوك المستهلكين والشركات
تؤجل الشركات الإنفاق الرأسمالي وخطط التوظيف، مفضلةً تعزيز احتياطاتها النقدية بدلاً من الاقتراض المكلف. وهذا بدوره يُبطئ الزخم الاقتصادي ويخلق حلقة مفرغة من الإقراض الحذر والنمو الضعيف.
كان لكل هذا تأثير عميق على كيفية ميل كل من الأفراد والشركات إلى الاقتراض. أصبح المستهلكون الذين يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة والتوقعات الاقتصادية غير المؤكدة أكثر حذرًا.
في معظم أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، تؤجل العائلات أو تُقلل من مشترياتها الكبيرة، بدءًا من السيارات الجديدة ووصولًا إلى المنازل المُجددة.
والشركات أيضا قلصت حجم استثماراتها استجابةً لارتفاع تكاليف الاقتراض وتزايد حالة عدم اليقين. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2024أ)..
المملكة العربية السعودية:
تحدٍّ من نوع مختلف
تلعب مملكتنا دورًا قياديًا في هذه الأزمة العالمية بفضل الإدارة المالية الحكيمة، والفوائض المالية الممتازة الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، وامتلاكها أحد أقوى احتياطيات النقد الأجنبي في العالم. ُتحافظ المملكة على بقائها بمنأى عن بعض التحديات التي تُثقل كاهل نظيراتها من الدول الأخرى. بالإضافة الى أن ربط الريال بالدولار يمنعه من التعرض لتقلبات العملات التي تشهدها أسواق مثل تركيا أو مصر. وقد حافظ البنك المركزي السعودي على أدوات فعالة لدعم سيولة السوق عند الحاجة.
ومع ذلك، فإن نجاح التحول الاقتصادي السعودي - من خلال رؤية 2030 - يُمثل أيضًا تحديات من نوع خاص. فالتنوع الاقتصادي السعودي الواسع النطاق يتطلب إقبالًا هائلًا على رأس المال.
تجذب المشاريع العملاقة، مثل نيوم، وذا لاين، ومركز القدية الترفيهي، وحديقة الملك سلمان التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، مبالغ طائلة من التمويل. إذا بدأ تشغيل هذه المشاريع في وق زمني متقارب، فقد يُولّد هذا موجات من الضغط على السيولة داخل النظام المصرفي المحلي، حتى مع بقاء الاقتصاد الكلي قويًا من حيث أساسياته.
في غضون ذلك، ونظرًا لارتباط الريال بالدولار الأمريكي (3.75 ريال سعودي/دولار أمريكي)، فإن أسعار الفائدة في المملكة العربية السعودية تتبع حتمًا السياسة النقدية الأمريكية، ومع شروع مجلس الاحتياطي الفيدرالي التشديد الصارم منذ عام 2022، ارتفعت تكاليف الاقتراض للأسر والشركات السعودية بالمثل (جدوى للاستثمار، 2025).
تُظهر بيانات البنك المركزي السعودي أن الموافقات على الرهن العقاري السكني الجديد انخفضت بنحو 10% في أواخر عام 2024، مع احتمال حدوث المزيد من الانخفاضات في أوائل عام 2025، بينما تباطأ نمو القروض التجارية من معدلات ثنائية الرقم قبل عامين فقط إلى ما يقرب من 5-6% اليوم.
جوانب إيجابية ونقاط قوة إستراتيجية
تمتلك المملكة العربية السعودية نقاط قوة هائلة لا يُمكن لمعظم الأسواق الناشئة الأخرى إلا أن تحسدها عليها. لا تزال احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي قوية، مما يمنح البنك المركزي قدرةً واسعةً على التدخل واستقرار السيولة عند الحاجة.
صُممت مملكتنا خطط الإنفاق الرأسمالي طموحة ومدروسة بعناية في إطار رؤية 2030 للحفاظ على المرونة المالية، وتجنب الإفراط في الاستدانة التي وقعت فيها اقتصادات أخرى تعتمد على النفط في دورات السلع الأساسية السابقة. كما يعمل صانعو السياسات المالية في مملكتنا جاهدين لتنويع مصادر التمويل وتنمية الاقتصاد. زاد حجم استخدام الأشخاص للتكنولوجيا المالية المرخصة من البنك المركزي، وأيضا تراخيص الخدمات المصرفية الرقمية، ومنصات التمويل الأخرى، وأصبح نطاق توافر الائتمان بما يتجاوز القروض المصرفية التقليدية. في الوقت نفسه تُتيح جهود البنك المركزي السعودي في تعميق الحصول على التمويل دون الاعتماد المفرط على الائتمان المصرفي عن طريق أسواق الصكوك وسندات الشركات للشركات وهو تقدمٌ مهمٌ في عالمٍ يسوده أسعار فائدة مرتفعة هيكليًا.
التطلع إلى المستقبل
لا يزال السياق العالمي الأوسع يُشكّل تحديًا يُحذّر صندوق النقد الدولي من أن العالم سيضطر إلى التعود على أسعار فائدة أعلى «لفترة أطول مما توقعته الأسواق في البداية»، حيث لا تزال البنوك المركزية ملتزمة التزامًا راسخًا بالقضاء التام على التضخم وتثبيت التوقعات.
هذا الواقع الاقتصادي والمالي الجديد يعني أن المستهلكين والشركات سيواصلون تعديل عاداتهم الاقتراضية، مع تداعيات تمتد إلى الاستثمار والاستهلاك، وفي نهاية المطاف النمو.
ومع ذلك، فإن المزيج الفريد الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية من القوة المالية، والتخطيط الاستراتيجي طويل الأجل، يجعلها في وضع أفضل من معظم الدول الأخرى لتجاوز هذه الحقبة من ارتفاع تكلفة الأموال، ومن خلال الاستمرار في موازنة السيولة مع الطموحات الجريئة لرؤية 2030، تُهيئ المملكة نفسها ليس فقط لتحمل هذه التحولات العالمية، بل لتحويلها إلى أرض اختبار للمرونة والابتكار.
وأخيرًا، فإن طموحات المملكة العربية السعودية الكبرى - لتنويع اقتصادها، وترسيخ مكانتها كوجهة استثمارية عالمية، وإنشاء قطاع خاص نابض بالحياة - تسير بشكل ممتاز مع تدفق سليم لرأس المال. وهذا إنجاز كبير في عصر الاقتراض المُكلف، ولكن بفضل الاحتياطيات المالية القوية، والأسواق المالية المتعمقة، والرؤية الاقتصادية الواضحة، فإن المملكة العربية السعودية في وضع جيد ليس فقط لمقاومة هذه التحديات، بل وأيضاً لمقاومة تقلبات الأسواق المالية.
** **
- أريج كعكي