في كل عقد من الزمان يمر التاريخ السياسي للعالم بمرحلة جديدة من الخلافات والتوترات السياسية والاقتصادية، وتداعياتها تنعكس بشكل كبير على طبيعة العلاقات في البيئة الدولية، ما يؤدي إلى نشوب الصراعات والنزاعات والحروب. ومن الأشياء المحددة لذلك والتي تبعث وصفاً لمستوى الحال في السياسة الدولية هو زيادة الإنفاق العسكري أو كما يُسمى في كثير من الأحيان بسباق التسلّح.
حيث تقوم الدول بحملات متتالية من سباق التسلّح في ظل تنافسية عالية لامتلاك منظومة عسكرية متكاملة وأنظمة أمنية حساسة، مع رفع التركيز العسكري على أدوات الذكاء الاصطناعي للحصول على آخر التقنيات الحديثة في الأنظمة السيبرانية، من أجل التأهب والاستعداد قبل نشوب أي نزاع.
وفي وقتنا المعاصر سجَّلت البيئة الدولية حالة من سباق التسلّح غير المحدود في أقاليم متنوِّعة حول العالم وليست حصراً على بؤرات ومواقع جيوسياسية مندلعة فيها فتيل الحروب منذ وقت سابق، لكنه حتى بعض الدول البعيدة عن مناطق الصراع والتنافس الجيوسياسي رفعت ميزانياتها الدفاعية مؤخراً.
مما يشكِّل حالة من القلق إزاء ارتفاع عدد مناطق الصراع حول العالم بشكل مستمر وتوسيع دائرة الحروب وجبهاتها المتعدِّدة، ما قد يجعل ظاهرة الاضطراب هي المسيطرة على المشهد الدولي. لأن النتيجة الحتمية لهذه التصعيدات هي إعاقة الجهود المشتركة في إحياء السلام العالمي وتحقيق السلم والأمن الدوليين. وغيرها من النتائج السلبية من الزيادة في الخسائر البشرية وتفاقم أزمة اللاجئين وحدوث المجاعات وتدمير البنى التحتية للمجتمعات، غير حالات الفوضى التي لا يحمد عقباها.
كما أنه عند الإمعان بالأرقام والمخصصات المرصودة للمؤسسات العسكرية من ميزانيات الدول في السنة الماضية 2024، نجدها أرقاماً مهولة وقد سجّلت أعلى صعود لها منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي. ويعزى ذلك إلى تزايد الطلب على الأسلحة في سوق الأسلحة العالمي بشكل غير مسبوق، إذ بلغ حجم الإنفاق العسكري العالمي في السنة الماضية 2,718 تريليون دولار أمريكي تقريباً.
ومن المؤكد أن النصيب الأكبر للإنفاق العسكري كان للولايات المتحدة، إذ بلغت ميزانية الدفاع الأمريكية لـ2024 حوالي 997 ملياراً ما يعادل 37 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وحسبما يُذكر فإن البنتاغون قام بتأمين مخزون الأسلحة من الصواريخ والمعدات العسكرية الأخرى وتطوير منظومة التصنيع العسكري. كما أنه من المتوقع استمرار واشنطن في رفع ميزانيتها الدفاعية في السنوات القادمة بدواعي تصاعد التهديدات في مناطق النفوذ الجيوسياسي لها.
تلتها الصين في المرتبة الثانية، إذ تجاوز إنفاقها العسكري في نفس السنة 314 مليار دولار بمعدل نمو 1,7 % مقارنة بالسنة التي سبقتها، تمثَّلت بمخصصات لتحديث الوحدات في جيش التحرير الشعبي؛ أحد أكبر الجيوش العالمية من حيث العدد، ونفقات التطوير المستمر لمنظومة الدفاع الجوي الصاروخي اتش كيو-9 لتعزيز مقدرات بكين العسكرية. بالإضافة إلى محاولاتها في إنتاج نماذج تحاكي منظومة هايمارس الصاروخية الأمريكية.
وفي المرتبة الثالثة روسيا الاتحادية التي تخوض منذ سنوات حرباً مع جارتها أوكرانيا مما دعا إلى رفع ميزانيتها الدفاعية لسنة 2024 بتخصيصها 7,1 % من الناتج المحلي الإجمالي للنفقات العسكرية والتي بلغت 149 مليار دولار أمريكي تقريباً. يتم من خلالها تزويد الجيش بالصواريخ والمسيَّرات وتطوير مؤسسات المجمع الصناعي العسكري لكي تزيد من إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية. فمجموع ميزانيات الدفاع لهؤلاء الأقطاب الثلاثة تعادل 54,5 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
فإن اتباع هذا السلوك من سباق التسلّح وزيادة الإنفاق العسكري بشكل مطّرد في ظل الصراعات الممتددة حول العالم، يزيد من الأمر تعقيداً ويثير المخاوف من مخاطر امتلاك الدول لكل هذه الأسلحة المتطورة، مع أهمية وجود العقلانية في استخدامها في حالات التصادم الإقليمي والدولي.
بينما في الجانب الآخر الدول التي لم تحتط وتحرص على امتلاك أنظمة عسكرية متقدمة وجيش مؤهل قتالياً وتقنياً، ستكون في موقف صعب في حال أقرعت طبول الحرب وأرغمت على خوضها دون سابق إنذار.
وبشكل منطقي سيكون من تداعيات هذين السلوكين المتناقضين هو اختلال ميزان القوى والتفاوت في المقدرات العسكرية بين الدول المتنافسة عسكرياً وبقية دول العالم. مع احتمال انجرار هذه الدول وراء حروب لا مصلحة لها بها بسبب توسيع دائرة الصراع والتنافس الجيوسياسي مثلما يحدث في حالات الحرب بالوكالة.
** **
- عبدالعزيز بن عليان العنيزان