د. محمد بن إبراهيم الملحم
أستكمل حديثي عن رافعة تطوير المعلم (وإن شئت فقل تطوير التدريس) وهي دمج الذكاء الاصطناعي AI في التدريس؛ حيث نتناول اليوم تجربة كوريا الجنوبية في تطبيقه بتعليمها، ونذكر أولا أنها التي حقق طلابها مقاييس عالية في PISA 2022، حيث حققوا المركز الخامس عالميًا عام 2022 بعد سنغافورة، اليابان، ماكاو وتايوان وقد جاءت بين المركز الثالث والسابع في الرياضيات، وبين الثاني والثاني عشر في القراءة، حسبما ورد في تقرير PISA 2022 من منظمة OECD، وتحافظ كوريا على نسبة 98 % من الطلاب في التعليم الثانوي، و86 % من هؤلاء يلتحقون بالتعليم العالي، وهي من أعلى النسب عالميًا وقد لعب هذا الانتشار التعليمي دورًا بارزًا في التنمية الاقتصادية للبلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث انعكست الإنجازات التعليمية على قدرات اليد العاملة وتنافسية الاقتصاد وهو تقدّم يفسّره التوسع الكثيف في التعليم خلال فترة الانطلاق الاقتصادي، حيث شهدت كوريا بعد السبعينيات توسعًا هائلًا في التعليم الأساسي والثانوي، وارتفع معدل الإلمام بالقراءة من 22 % في عام 1945 إلى حوالي 99 % لاحقا، وكذلك ما توفره الدولة من ثقافة تعليمية قوية ومحفزة مجتمعيًا حيث تُربى الأجيال على قيم التفوق الأكاديمي، مما يجعل التعليم طريقًا لتحقيق النهوض الاجتماعي والاقتصادي. ومن مظاهر هذه الثقافة، وجود «hagwons» (وهي مراكز تقوية تعمل بعد فترة المدرسة في المساء) يقدمها القطاع الخاص لدعم الطلاب أكاديميًا، وهي مرتفعة التكاليف ولكن ثقافة المجتمع المهتمة بالتعليم تجعل الناس يقبلون عليها لدعم أبنائهم المحتاجين لها، ويضاف لذلك السياسات الحكومية الفاعلة والتطوير المهني المركّز حيث خصصت الحكومة جزءًا كبيرًا من الميزانيات لتطوير البنية التحتية والمدارس، إلى جانب دعم التعليم الفني والمهني (مثل مدارس «Meister») كنموذج واقعي للتعليم القائم على مهارات سوق العمل.
كذلك فإن الإصلاحات المنهجية والاعتماد على التقييمات الدولية ساهم في ازدهار كوريا التعليمي فقد سعت لتبني معايير دولية في المناهج والأساليب التعليمية، كما أنها تستخدم نتائج PISA لتوجيه السياسات التعليمية وتحسين الجودة، وبالتالي فإن كوريا الجنوبية أثبتت عبر سنوات من التقييم الصارم والمستمر أن التعليم يمكن أن يكون التحول الاجتماعي الأمثل إذا ما تميّز بالتوسع الشامل، والجودة العالية، والدعم المجتمعي.
وبالنسبة لتطبيق الذكاء الاصطناعي AI لدى كوريا فقد استخدمته أيضا في المجال التحليلي كما فعلت أستونيا، ولكن تلك طبقته في الاختبارات وهنا طُبق لتحليل أنماط التعلم لدى الطلاب (أي كيف يفكر ويتعلم كل طالب)، وبالتالي اقتراح أساليب تدريس جديدة للمعلم تناسب تفكير أولئك الطلاب، وهو ما قلل من الفجوة بين ما يقدمه المعلم والفروق الفردية بين الطلاب، وهذا التحليل يعمل على تحليل بيانات تفاعلات الطلاب مع المحتوى الذي يقدمه النظام لهم، ويشمل ذلك عدد محاولاتهم لحل الأسئلة ومستويات صعوبة المفاهيم على كل منهم، ثم ومن خلال عمل تحليلات دقيقة لواقع ممارسة تجربة التعــلم لكل طالب مع النظام فإنه سيفهم ما مشكلات هذا الطالب وما نقاط القوة والضعف لديه ويمكنه بالتالي تقديم اقتراحات للمعلم كيف يرتقي بهذا الطالب وما الذي يمكن فعله لحل مشكلاته التعليمية، بل إنه يمكن أن ينتج للمعلم مواد تعليمية مناسبة لمستوى هذا الطالب ليكلفه بها حيث ستتدرج له حتى يصل الى مستوى الفهم والاستيعاب المطلوب.
وفوائد مثل هذا النظام متعددة فهو يؤدي إلى كشف الفجوات مبكرًا فيمكن من خلاله تحديد الطلاب الذين بدأ أداؤهم في التراجع حتى قبل ظهور علامات ضعف واضحة، وكذلك تحسين أساليب التدريس، فالنظام يقترح طرقًا بديلة لتقديم المفاهيم التي يواجه فيها بعض الطلاب صعوبة، كما أن الطالب يستفيد من هذا النظام بتقليل فجوة المستوى بينه والآخرين ذلك أن الطلاب المتأخرين سيحصلون على دعم إضافي في الوقت المناسب وهو ما لا يتوفر لهم في الطرق العادية والتعليم التقليدي، ولا ننسى أيضا أنها تجربة تعليمية مخصوصة ذلك أن المحتوى يتكيف مع سرعة الطالب، فلا يشعر بأنه متأخر أو متقدم أكثر من اللازم ويشعر بالحرج أو يشكل التعليم عليه ضغطا نفسيا، حتى بينه وبين نفسه..
وسنكمل الحديث عن دول أخرى بإذن الله.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً