جانبي فروقة
في زمنٍ يُخيّم عليه التوتر الجيوسياسي وتُحاصرُهُ عودةُ شبح الحروب الكبرى، تطفو على السطح مصطلحات كنا نعتقد أنها دفنت مع الحرب الباردة منها الردع النووي، الضربة الاستباقية، واليد الميتة. لكن يبدو أن العالم، وهو يراقب مجريات الحرب الروسية - الأوكرانية، يعود تدريجيًا إلى معادلة الرعب النووي، ليس ككابوس محتمل، بل كأداة حقيقية في صندوق أدوات السياسة الدولية.
ومؤخراً لوح الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف للولايات المتحدة الأمريكية بعبارة «على ترامب أن يتذكر مدى خطورة اليد الميتة الأسطورية» فما هي اليد الميتة؟ وكيف أصبحت نموذجًا لمفارقة الردع النووي المعاصر؟ وماذا تكشف لنا مقارنة العقائد النووية للدول الكبرى عن فلسفتها العميقة في فهم الأمن والسلام؟ وهل الردع عبر احتمال الدمار هو شكل من أشكال العقل أم صورة من صور الجنون المقنن؟
«اليد الميتة» (Perimeter) ليست مجرد نظام عسكري، بل هي فكرة تتحدى المنطق البشري بحيث تضمن دولة ما أنها ستقوم بتدمير العالم حتى بعد فنائها. وُلد هذا النظام في ثمانينيات الاتحاد السوفييتي كرد فعل على خوف عميق من ضربة أمريكية مفاجئة تُبيد القيادة الروسية قبل أن تتمكن من الرد.
آلية «اليد الميتة» تعتمد على استشعار بيئي وتكتيكي معقد فإذا رصدت المستشعرات انفجارًا نوويًا، أو انقطاعًا في الاتصال مع القيادة العليا، أو إشعاعات غير طبيعية، يبدأ النظام بتنشيط تلقائي لرد نووي شامل، موجّه من قواعد مختلفة نحو أهداف محددة مسبقًا. ما يُخيف في هذا النظام ليس فقط قدرته على الرد دون تدخل بشري، بل إصراره على أن يكون «الموت» بداية الفعل، لا نهايته. وأساس فلسفة هذا الجنون المحسوب هو مفهوم «الردع النووي»، والذي يقوم على فرضية أن التهديد بالدمار الشامل كفيل بمنع أي طرف من التفكير في الهجوم. وهنا نصل إلى مبدأ «الدمار المتبادل المؤكد» (MAD)، حيث تكون النتيجة في حال استخدام السلاح النووي هي الهلاك للجميع. لكن «اليد الميتة» تأخذ هذا المفهوم إلى مستوى جديد، أكثر تطرفًا فهي لا تردع فقط، بل تُعلن أنها ستدمر حتى لو لم يبقَ فيها أحد للضغط على الزر. هذه الفكرة تعيد تعريف الردع كـ«جنون عقلاني»، حيث تكون الرسالة: «إذا انتهينا، فأنتم كذلك». وُجدت من قبل في الحرب الباردة أنظمة مثل «launch-on-warning»، التي تطلق الصواريخ فور رصد هجوم قادم، حتى قبل أن يُضرب الهدف. لكنها كانت دائمًا تتطلب تأكيدًا بشريًا. اليد الميتة تتفوق بخطورتها: إنها تستبدل القائد بالآلة، والعقل بالحسابات. وتشبه «اليد الميتة» أسطورة «السفينة الشبح» أو «اللعنة التي لا تموت بموت صاحبها» - رمزًا للدمار الذي يتحرك من تلقاء نفسه.
ولو قمنا بمقارنة العقائد النووية للدول النووية الكبيرة لوجدناها تتأرجح بين الغموض والتهديد والضبط الذاتي، فالعقيدة الروسية تُعد من الأكثر تشددًا وغموضًا باعتمادها الردع بالغموض والتصعيد. فهي تتيح استخدام السلاح النووي ليس فقط عند التعرض لهجوم نووي، بل حتى عند أي تهديد يُصنّف كـ»تهديد وجودي للدولة». هذا المفهوم الفضفاض يمنح القيادة الروسية هامشًا واسعًا لتبرير استخدام السلاح النووي، خاصة في ظل ظروف الحرب الأوكرانية واليد الميتة نفسها تنتمي إلى هذا النسق وهي أداة تضع الخصم دائمًا في موقف حذر من رد غير متوقع، وتحول الردع إلى سيف مرفوع باستمرار. وأما الولايات المتحدة الأمريكية فعقيدتها النووية تتسم بالغموض البناء والضربة الاستباقية حيث تتبنى واشنطن ما تسميه «الغموض البنّاء» (constructive ambiguity). فلا تُعلن شروط استخدام النووي بوضوح، لكنها تؤكد أنه لن يُستخدم إلا في حالات قصوى. ومع ذلك، لم تُسقِط تمامًا فكرة الضربة الاستباقية، ما يجعل عقيدتها مرنة، قابلة للتكيف بحسب التهديدات وسياقها الجيوسياسي وأما العقيدة الأوروبية فهي تعتمد على الردع السيادي تحت مظلة الحلفاء وفرنسا وبريطانيا تسلكان نهجًا أكثر تحفظًا، ففرنسا ترى أن الردع النووي هو ضمانة لسيادتها الوطنية، بينما تربط بريطانيا استخدامه بالتهديدات التي تمس المملكة أو حلفاء الناتو. لذلك العقيدة الأوروبية تُبقي النووي في الظل، أداة ردع لا وسيلة حرب. وأما الصين فعقيدتها تتبنى مبدأ الالتزام بعدم الاستخدام الأول نظرياً وهو موقف أخلاقي نسبيًا، يعكس فلسفة صينية قائمة على الصبر الاستراتيجي. لكن الواقع قد يكون أكثر مرونة، إذ يربط بعض المحللين تخلي الصين عن هذا المبدأ بتهديد مصالحها الجوهرية، مثل تايوان أو الممرات التجارية الحيوية.
منذ فبراير 2022، أصبح الخطاب النووي الروسي جزءًا من المشهد الإعلامي الحربي والسياسي. التهديد باستخدام «الأسلحة النووية التكتيكية» صار وسيلة ضغط تُستخدم بحذر، لكن بكثافة. والحديث عن احتمال تفعيل «اليد الميتة» - حتى ولو كاحتمال نظري - شكّل عاملاً قويًا في ضبط إيقاع الدعم الغربي لأوكرانيا.
هنا يظهر الردع كأداة حرب نفسية. لا أحد يعلم إن كانت اليد الميتة مفعلة فعليًا، لكنها حاضرة في عقول صانعي القرار.
الردع النووي لم يعد قضية أمنية فقط. التلويح الروسي، حتى إن لم يتحول لفعل، يُربك الأسواق، يرفع أسعار الطاقة والقمح، ويؤثر على قرارات كبرى في عواصم مثل بكين ونيودلهي. في الشرق الأوسط، نرى حراكًا دبلوماسيًا مدروسًا يعيد تقييم التحالفات وأدوات الردع الخاصة.
هل الردع بالجنون هو السبيل لحماية العالم؟ هل التهديد بالفناء هو ما يمنع الفناء؟
هذه مفارقة العصر النووي. كلما تطورت التكنولوجيا، ازدادت هشاشة الاستقرار، وكأن السلام صار معتمدًا على أجهزة استشعار، لا على إرادة الشعوب.
«اليد الميتة» قد تكون نظامًا دفاعيًا، لكنها أيضًا مرآة لاضطراب عميق يعكس حقيقة أن الأمن بات يُبنى على أساس الفناء المتبادل. فهل حان الوقت لإعادة تعريف الأمن؟ ليس كقوة تدمير، بل كقدرة على البناء والعيش المشترك؟
العقل الحي يسأل، يفكر، ويتراجع حين يقترب من الحافة. أما اليد الميتة، فلا تتراجع... إنها تمضي، بصمت بارد، نحو الزر الأحمر.
** **
- كاتب أمريكي