لم تعد الثروات الطبيعية، وعلى رأسها النفط، الضامن الوحيد لمكانة اقتصادية راسخة في عالم يتجه سريعًا نحو الرقمنة وتكثيف المعرفة. في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، أصبحت الدول تُقاس بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوطين التقنية لا بما تملكه من موارد طبيعية. وتأتي المملكة العربية السعودية في صدارة الدول التي شرعت في إعادة تشكيل بنيتها الاقتصادية والاجتماعية عبر مسار واعٍ نحو بناء اقتصاد يقوم على الابتكار ورأس المال البشري. فالرؤية السعودية 2030 لم تكن مجرد وثيقة طموح، بل خارطة طريق لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والاقتصاد، وبين الدولة والتنمية، وبين الحاضر والمستقبل.
يشير النمو في الإنفاق على البحث والتطوير، الذي بلغ نحو 22.6 مليار ريال في عام 2023 إلى ارتفاع ملحوظ عن السنوات السابقة ليشكل حوالي 0.56% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أن هذه النسبة لا تزال دون المتوسط العالمي للدول الصناعية، فإن التدرج التصاعدي يعكس تحولًا استراتيجيًا في أولويات السياسة العامة. اللافت هنا ليس فقط حجم الإنفاق، بل توجهه نحو التكامل بين التعليم العالي، والقطاع الصناعي، والمؤسسات الحكومية، مما يشكل بيئة حيوية لتحويل الأفكار إلى منتجات، والمعرفة إلى قيمة اقتصادية مضافة. كما أن مساهمة القطاع الخاص في تمويل أكثر من 40% من هذا الإنفاق تعكس تسلل الابتكار إلى صلب الاقتصاد، بعيدًا عن الإطار الأكاديمي البحت. كما ارتفع عدد العاملين في البحث والتطوير من 55,000 في 2021 إلى 86,000 في 2023، في حين بلغت مساهمة القطاع الخاص حوالي 9.3 مليار ريال، بنسبة 41%.
في الوقت نفسه، تبرز مؤشرات سوق العمل كمرايا عاكسة لهذا التحول. فقد تراجع معدل البطالة بين السعوديين إلى 7.1% بحلول منتصف 2024، فيما تجاوزت مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل حاجز 36% متقدمة على مستهدفات رؤية 2030. إن هذا التغير لا يعكس فقط تطورًا كمّيًا في مؤشرات التشغيل، بل يعبر عن تحوّل بنيوي أعمق في علاقة المجتمع بسوق العمل، من حيث الانفتاح على أدوار جديدة للمرأة، وتوسيع دائرة المهارات، وتعزيز مرونة التنقل المهني.
هذا التحول لا يكتمل دون مراجعة لدور الجامعات، التي لم تعد مجرد مؤسسات تعليمية، بل صارت تُدرك تدريجيًا دورها كمحاضن للإبداع ومراكز لخلق القيمة. من الجامعات البحثية مثل كاوست، إلى الجامعات الريادية مثل جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، تتبلور نماذج لربط البحث العلمي بالصناعة، وتقديم حلول مبتكرة لتحديات الاقتصاد الوطني، من الطاقة المتجددة إلى الأمن الغذائي. ومع أن التجربة لا تزال في طور التوسع، فإن توجه الجامعات نحو تأسيس حاضنات أعمال، وتسجيل براءات اختراع، وعقد شراكات بحثية تطبيقية، يفتح المجال لتوليد اقتصاد مبني على المعرفة قادر على منافسة اقتصادات أكثر رسوخًا.
وتعزز هذه الجهود مبادرات وطنية لرفع الحضور التعليمي العالمي للمملكة، وفي مقدمتها مبادرة «ادرس في السعودية» التي تستهدف استقطاب الطلبة الدوليين للدراسة في الجامعات السعودية ضمن بيئة أكاديمية وبحثية متقدمة. ولا تقتصر أهداف المبادرة على تعزيز التبادل الثقافي أو تنويع مصادر التمويل الجامعي، بل تشمل تحويل المملكة إلى منصة إقليمية لتصدير المعرفة، وربطها بشبكات بحثية وعلمية عالمية. ويسهم جذب الكفاءات الطلابية من الخارج في إثراء التنوع المعرفي، وتكوين رأس مال بشري متنوع يضيف للاقتصاد الوطني، ويرفع تنافسية الجامعات السعودية في التصنيفات الدولية.
في السياق ذاته، تبرز برامج التعليم التنفيذي كقوة صاعدة في المشهد التحولي السعودي. فبالتوازي مع تمكين الشباب وتمهين التعليم التقني، تتسابق المؤسسات الأكاديمية العالمية في تقديم برامج تستهدف النخب الإدارية بهدف تعزيز الجاهزية المؤسسية وتحسين كفاءة اتخاذ القرار في القطاعين العام والخاص. ومن المنتظر أن يتم تأهيل أكثر من عشرة آلاف قيادي سعودي بحلول 2030، في مجالات تركز على الحوكمة الرقمية والطاقة المستدامة. ويُعد هذا الاستثمار في الكفاءات الإدارية ركيزة أساسية لتحويل الاستراتيجية الوطنية إلى نتائج قابلة للقياس، وضمان انتقال التحوّل من الوثائق إلى أرض الواقع.
لكن التحول نحو اقتصاد المعرفة لا يُقاس فقط بحجم الإنفاق أو عدد الخريجين، بل بقدرة الدولة على بناء نموذج اقتصادي متكامل، يرتكز على تحفيز الابتكار المحلي من خلال تمويل تنافسي ومستدام للبحث، وتحويل الأفكار إلى منتجات. وكذلك تكامل التعليم مع الصناعة عبر برامج مزدوجة، وتدريب تعاوني، وشراكات طويلة الأمد، بالإضافة إلى إعادة صياغة الحوافز المؤسسية في الجامعات لتكافئ الإنتاج العلمي والاقتصادي معًا.
ونشر الثقافة الرقمية بين الشباب من خلال تمكينهم من أدوات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وتقنيات البلوكشين. وكذلك استثمار منهجي في المرأة السعودية باعتبارها شريكًا إنتاجيًا ومعرفيًا، وليس فقط عنصر تمكين رمزي.
ورغم التقدم المحرز، تبقى التحديات قائمة، وفي مقدمتها الحاجة إلى تسريع وتيرة توطين التقنية، وتوسيع قاعدة الإنتاج المعرفي، وتقليص الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق. فالمسألة لم تعد مجرد تحديث في المناهج أو توسع في التمويل، بل تتطلب إعادة هيكلة الحوافز المؤسسية، وتكاملًا أكثر نضجًا بين القطاعات، وثقافة إنتاجية تتجاوز الاستهلاك وتستثمر في الإنسان كمصدر للثروة لا ينضب. ومن هنا، فإن الرهان السعودي على اقتصاد المعرفة يجب أن يظل مشروطًا باستمرارية الإصلاح، وبالقدرة على بناء منظومة وطنية للابتكار لا تكتفي بمحاكاة التجارب العالمية، بل تصوغ نموذجها الخاص من رحم السياق المحلي وخصوصية الموارد والفرص.
وفي هذا السياق، تُعد الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة ضرورة استراتيجية لا ترفًا معرفيًا. إذ تُظهر نماذج مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة أهمية الدمج العميق بين السياسات التعليمية والابتكارية وبين خطط التصنيع والنمو الاقتصادي. فقد تمكّنت كوريا، عبر ربط جامعاتها الكبرى بشركات عملاقة مثل سامسونغ وهيونداي، من تحويل البحث العلمي إلى منتجات تصديرية تُغذي الناتج المحلي. أما سنغافورة، فاختارت منذ التسعينيات تحويل التعليم التقني إلى مسار نخبوي، واستثمرت في برامج قيادة تنفيذية تربط بين القطاعين العام والخاص في منظومة واحدة للإنتاج المعرفي. ومن خلال هذه النماذج، يتّضح أن جوهر النجاح لا يكمن فقط في حجم الإنفاق، بل في فعالية الربط المؤسسي، وسرعة تحويل المعرفة إلى نماذج أعمال وفرص عمل. من هذا المنطلق، يمكن للمملكة مواءمة هذه الخبرات مع خصوصيتها، عبر بناء شراكات دولية ذكية، وتبنّي نماذج تعليمية هجينة، وتعزيز الحوافز لنقل وتوطين التقنية ضمن رؤية سيادية تستوعب التجربة ولا تذوب فيها.
وإذا كان النفط قد أسّس لبنية تحتية صلبة، فإن العقول السعودية هي التي ستبني المستقبل. وإذا كانت الثروة الطبيعية قد موّلت العقود الماضية من النمو، فإن اقتصاد الأفكار والمهارات والابتكارات هو الذي سيقود العقود القادمة من التنمية المستدامة.
إن التحوّل من اقتصاد الموارد إلى اقتصاد المورد البشري ليس شعارًا تنموياً فقط، بل هو اختبار حقيقي لقدرة المملكة على تحقيق نهضتها من الداخل، عبر شعبها ومؤسساتها، وليس فقط من خلال أسواقها وإيراداتها.
** **
د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد متخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي