د. رانيا القرعاوي
شهدت جنيف هذا الشهر انعقاد الجولة النهائية من مفاوضات الأمم المتحدة لصياغة معاهدة دولية ملزمة للحد من التلوث البلاستيكي، لكن المفاوضات انتهت دون اتفاق بعد انقسام وفود أكثر من 184 دولة حول سُبل التعامل مع أزمة البلاستيك. فبينما طالبت أكثر من 100 دولة بفرض قيود صارمة على إنتاج البلاستيك والحد من المواد الكيميائية الضارة، قادت السعودية، إلى جانب عدد من الدول المنتجة للنفط، موقفًا يدعو إلى التوازن بين الاعتبارات البيئية والمتطلبات الاقتصادية.
ما يغيب عن الأذهان أن أزمة البلاستيك ليست قضية نفايات فقط، بل قضية انبعاثات بالدرجة الأولى. فوفقًا للدراسات الحديثة، يُسهم إنتاج البلاستيك في نحو 5 % من إجمالي الانبعاثات العالمية، ويستهلك ما يقارب 12 % من النفط و8 % من الغاز الطبيعي عالميًا. والأسوأ أن هذه الانبعاثات مرشحة للتضاعف لتصل إلى 4 مليارات طن بحلول عام 2060، ما يجعل البلاستيك أحد أخطر المساهمين في تسريع تغيّر المناخ وتدهور النظم البيئية على مستوى العالم.
من هذا المنطلق، يكتسب الموقف السعودي بعدًا استراتيجيًا؛ فالمملكة، وهي قوة صناعية كبرى في مجال البتروكيماويات، ترى أن معالجة التلوث البلاستيكي يجب أن تتم عبر حلول مبتكرة تراعي الفوارق بين الدول المنتجة والمستهلكة، بدلاً من فرض قيود عامة قد تُربك الاقتصادات النامية. السعودية لا ترفض الحلول البيئية، بل تدعو إلى الاستثمار في الاقتصاد الدائري، وتطوير تقنيات إعادة التدوير المتقدمة، ودعم الابتكار الصناعي لتقليل الانبعاثات من المنبع.
وتستهدف الاستراتيجية الوطنية للصناعة في المملكة رفع الطاقة الإنتاجية للمنتجات البلاستيكية المعاد تدويرها إلى حوالي 612 ألف طن بحلول عام 2035 بمعدل نمو سنوي مركب (15%)، وذلك لتغطية الطلب المحلي والتصدير الى الأسواق الاقليمية، وبالتالي فإنه من المتوقع زيادة القيمة السوقية لسوق البلاستيك المعاد تدويره خاصة في ظل ما يشهده القطاع من تطورات تشريعية بيئية بالعالم.
ورغم أهمية هذه الأرقام، فإنها وحدها لا تكفي لإحداث أثر ملموس ما لم يتمكن الإعلام من صياغة خطاب استراتيجي متماسك يوازي حجم التحدي. هنا يتجلى دور الإعلام السنع، الذي لا يكتفي بتغطية المفاوضات ونقل التصريحات المتباينة، بل يعيد بناء السردية الإعلامية من منظور وطني قادر على مخاطبة الرأي العام العالمي بلغة علمية ومهنية. فالمطلوب هو تقديم خطاب يوضح أن الموقف السعودي ليس إنكارًا للأزمة، بل دعوة لإيجاد حلول عملية واقعية قائمة على الاقتصاد الدائري والابتكار الصناعي، بدلاً من فرض سياسات حظر قد تضرّ بالتنمية الاقتصادية للدول المنتجة.
وتدعم نظرية «دورة الاهتمام بالقضايا البيئية» لعالم السياسة الأمريكي أنتوني داونز هذا التوجه؛ حيث تفسّر كيف يمر الرأي العام بخمس مراحل: مرحلة ما قبل القضية، مرحلة الاكتشاف التحذيري والحماس النشط، مرحلة استيعاب تكاليف التغيير، مرحلة الهبوط التدريجي، وأخيرًا مرحلة ما بعد القضية. ووفقًا لهذه النظرية، فإن اهتمام الجمهور يتراجع سريعًا بعد ذروة التغطية الإعلامية، مما يجعل دور الإعلام الفعّال هو كسر هذه القاعدة عبر بناء خطاب مستمر يُبقي الأزمة في دائرة النقاش العام، ويقدّم حقائق علمية مدعومة بالأرقام تربط بين المخاطر البيئية والفرص الاقتصادية.
تظهر التجارب العالمية أن الإعلام قادر على قيادة التغيير. مثال ذلك الوثائقي الشهير «Blue Planet II» الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية BBC عام 2017. بعد عرضه، شهدت بريطانيا ما سُمّي «تأثير الكوكب الأزرق، «حيث لم يقتصر الأثر على رفع مستوى الوعي العام، بل دفع إلى تغييرات عملية؛ إذ أعلنت BBC وقف استخدام البلاستيك داخل المنظمة، كما ساهمت السلسلة في قرارات مثل حظر زجاجات البلاستيك في العقارات الملكية البريطانية.
من وجهة نظري، فإن الفرصة سانحة أمام السعودية اليوم لصياغة خطاب إعلامي استراتيجي، ليس للدفاع عن موقفها فحسب، بل لإقناع العالم برؤيتها المتوازنة تجاه قضايا التلوث البلاستيكي. يمكن للإعلام الوطني أن يوظّف تقارير تحليلية، ومقالات رأي، وحملات توعوية متعددة اللغات لشرح النهج السعودي في معالجة الأزمة، مع تسليط الضوء على مشاريع الاقتصاد الدائري، والمبادرات المحلية في إعادة التدوير، والابتكارات التقنية التي تتبناها المملكة كجزء من رؤية 2030.
إن الإعلام السنع ليس مجرد ناقل للأحداث، بل أداة لصناعة التغيير. فالمملكة تمتلك اليوم فرصة لبناء خطاب إعلامي مؤثر يبرز إنجازاتها في إدارة أزمة البلاستيك، وينقل للعالم رؤيتها المتوازنة بين حماية البيئة ودعم التنمية الاقتصادية، لتكون السعودية شريكًا رئيسيًا في صياغة مستقبل مستدام.