د. فهد بن أحمد النغيمش
المدينة الفاضلة هي من أشهر المواضيع الفلسفية التي أثارها أفلاطون في فلسفته، وهي مدينة خيالية يحلم بأن يسكنها أُناس طيبون يعيشون فيها في سلام ووئام لا يعرفون فيها الغل ولا الحسد، وقد ذكرها في كتابه المسمى «جمهورية أفلاطون» وتعد رمزًا للكمال الإنساني والاجتماعي، وتمنى أن يحكمها الفلاسفة لما يتمتعون به من حكمه ومعرفة.
ومن مواصفات هذه المدينة أنها توفر الأمن والأمان لساكنيها الذين يعدون إخوة يحب كل منهم الآخر ويحافظ عليه، ويعشون جميعًا في انسجام تام يقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي، وجميعهم متساوون في الحقوق والواجبات مع مراعاة الفروق الفردية بينهم وإتاحة الفرص للإبداع والتقدم والرقي لكلا الجنسين، والمدينة الفاضلة هي حلم الإنسانية الذي لم يتحقق ولن يتحقق لمنافاته الحقيقية مع الفطرة التي فطر الله بها هذا العالم الدنيوي فلقد خلق الله البشر مختلفين (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
فحكمة الله تقتضي أن يكون هنالك خير وشر، حق وباطل، ولذلك خلق الله الجنة والنار. أهل الخير وأصحاب الحق مأواهم الجنة، وأهل الشر وأصحاب الباطل مصيرهم إلى النار!
ولا يذكر التاريخ أن هناك مدينة فاضلة غير مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسسها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة، ومن مظاهرها المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فقد انصهرت وذابت كل الفوارق والنزعات الجاهلية، فلا فرق في اللون أو النسب أو الجنس أو الحسب أو الوطن. حتى أن الأنصار كانوا يشاركون المهاجرين بيوتهم ومزارعهم بل كان بعضهم يقول لي زوجتان اختر إحداهما فأطلقها وتتزوج بها، بل وصل الحال بهم إلى أعظم من ذلك وهي أن يتوارث المتآخيان، ونسخ هذا التوارث بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فساد بينهم التسامح والتراحم إلى حد كبير، ومع ذلك كان من بينهم المنافقون والعصاة وأولى الدسائس والمؤامرات لأنها طبيعة البشر بل طبيعة الحياة منذ أن وجدت الخليقة، فالحق والباطل صراعان يتجددان والشر والخير ضدان يتعالجان، ولن يوجد هناك ما يتمناه أفلاطون ولا غيره بل الحقيقة أن الحياة جميلة بطاعة الله وعبادته وفي الآخرة سنجد المدينة الفاضلة التي ليس بها صخب ولا حسد ولا تباغض ولا تدابر ولا أي من النزاعات أو الخلافات التي سادت في المجتمعات الدنيا، فوصفها ربنا سبحانه بوصف عظيم فقالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: (أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ). قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)، بل إن من أوصاف الجنة الكريمة نزع الغل والحسد وجميع أمراض القلوب من أهلها كما قال سبحانه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).
هل تحققت أحلام أفلاطون في بناء مدينته الخرافية وهل سعى أحد لتحقيقها؟ وهل يمكن أن تتحقق؟
جميع تلكم الأسئلة لن تكون يوماً واقعاً محسوساً أو ملموساً في مجتمعاتنا لأنها كما أسلفت تعتبر من التخيلات التي تنافي الفطرة بل وتعاكسها، وربنا سبحانه أخبر بذلك في محكم كتابه فقال سبحانه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).