د.عبدالله بن موسى الطاير
ما شيده اليهود من مكاسب معنوية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد المحرقة والمجازر التي تعرضوا لها، قوضته الحكومة اليمينية الإسرائيلية في عامين. التضامن العالمي في تجريم معاداة السامية والذي وصل حد تحصين عدوان الحكومة الصهيونية المتطرفة منذ 1948م، لم يعد اليوم مضمونا بين عامة الناس، ناهيك عن حكومات لطالما كانت صديقة لإسرائيل.
لا غرابة أن يوجّه نتنياهو رسالة غاضبة إلى الرئيس الفرنسي، ورسائل مذاعة لدول غربية عديدة في محاولة بائسة ويائسة لإعادتها لبيت الطاعة العمياء، بتهديدها بمعاداة السامية.
اليوم بدأ الناس بكل اللغات يبحثون في مصطلح «معاداة السامية»، ويقارنون بين ما تعرض له اليهود عبر التاريخ، وما يمارسونه ضد الفلسطينيين مسلمين ومسيحين. بدأت قصة معاداة السامية في الأيام الأولى للمسيحية، على وحي من آيات من العهد الجديد، كتلك الواردة في إنجيل متى والتي تُصوّر اليهود وهم يهتفون: «دم المسيح علينا وعلى أولادنا من بعدنا»، على اعتبار أنهم قتلوا عيسى عليه السلام.
وبمرور الزمن صعّدت الكنيسة خطابها ضد اليهود، إذ وصفهم الأب يوحنا الذهبي، في القرن الرابع الميلادي في خطبه بـقتلة المسيح، وحرض المسيحيين على إقصائهم وعزلهم. وبحلول العصور الوسطى، أخذت هذه النزعة منحى جديدا باتهام اليهود أنهم استخدموا دم المسيحيين في طقوسهم الدينية. وبذلك مُنع اليهود من الانضمام إلى النقابات، وأُجبروا على العيش في أحياء فقيرة في أوروبا، وتعرضوا للمذابح، بمبررات دينية مسيحية.
تطورت النزعة المتطرفة ضد اليهود مع الوقت، وفرضت قوانين العصور الوسطى على اليهود ارتداء شارات للتعرف عليهم، مما أنذر بالاستهداف المباشر لحقهم في الحياة.
كان العداء ذا طبيعة دينية، على أمل أن ينحسر بانحسار موجات التدين وظهور التنوير، إلا أن الأمر ازداد سوءا، فقد منحت ثورات التحرر وظهور العلمانية مبررا آخر لاستمرار العداء لليهود، يضاف للمبرر العقائدي المسيحي، حيث استخدمت نظريات تشارلز داروين لتبرير التسلسلات الهرمية العرقية، لتصوير اليهود ليس كأشخاص متطرفين دينيًا، بل كعرق سامي أدنى، يهدد نقاء الآرية. بهذا التحول حرم هذا التنميط العرقي اليهود من إمكانية الاندماج بفعل انحسار هيمنة الكنيسة، أو بتحولهم إلى المسيحية، حيث أصبحت الكراهية فطرية وبيولوجية في آن.
في دفاعه عن قومه، كان الباحث اليهودي موريتز شتاينشنايدر أول من استخدم مصطلح «التحيزات المعادية للسامية» عام 1860م لنقد موقف المؤرخ الفرنسي إرنست رينان اللغوي ضد الشعوب السامية، إلا أن الألماني المسيحي فيلهلم مار، أعاد إنتاج معاداة السامية عام 1879م كشعار للكراهية العنصرية. وتجاوبا مع المتغيرات، تأسست رابطة معاداة السامية كأول منظمة روجت صراحةً لكراهية اليهود على أسس عرقية.
بذلك أصبحت سماتهم السلبية المُتصوَّرة تُعتبر دينية وبيولوجية وغير قابلة للتغيير، وبذلك فاليهودي لا يمكن أن يتوقف عن كونه يهوديًا من وجهة نظر مار وآخرون معاصرون له.
اليهود الذين يتظاهرون ضد نتنياهو خارج وداخل إسرائيل يدركون حجم المعاناة التاريخية، وهم يرون حكومة المتطرفين الصهاينة تطبق الممارسة ذاتها على الفلسطينيين وتسلبهم حقوقهم كبشر، وتعتبرهم حيوانات متوحشة. وبينما تُركز استطلاعات الرأي حول صورة إسرائيل على أفعال الدولة، فإن نتائج الاستطلاعات تشير إلى تصاعدٍ في التحامل على اليهود، والذي غالبًا ما يربطه المُستطلعون والخبراء بما يحدث في غزة، مما يعكس تآكلًا واسع النطاق في الصورة الذهنية الإيجابية لليهود، التي بُنيت بعد الهولوكوست.
ووفقا لتقرير صادر عن جامعة تل أبيب فإن رابطة مكافحة التشهير تشير إلى ارتفاع حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة بنسبة 360 % في أعقاب 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م. ويعتقد 58 % من الإسرائيليين، بحسب مركز بيو في يونيو 2024م، أن بلادهم لا تحظى بالاحترام الدولي، ويشعر معظمهم بأن معاداة السامية أمر شائع ومتزايد على مستوى العالم.
وفي استطلاع للجنة اليهودية الأمريكية مطلع العام الحالي فإن 69% من اليهود الأمريكيين البالغين تعرضوا لمعاداة السامية عبر الإنترنت منذ بدء الحرب، واعتبرها 93 % منهم مشكلة خطيرة، ووجدت مؤسسة غالوب أن الأمريكيين يعتبرون معاداة السامية مشكلة «خطيرة للغاية» بمستويات مرتفعة مقارنةً بما كانت عليه سابقا.
نعم، لقد خسر الفلسطينيون الدماء والأرواح والأرض وتعرضوا لأبشع حرب إبادة وتجويع متعمد خلال القرن الواحد والعشرين، إلا أن خسارة اليهود، بسبب حكومة إسرائيل المتطرفة، كبيرة ويصعب ترميمها لعقود قادمة.