د.عبدالله بن سعد أبا حسين
للعلم لذّةٌ تتملّك كلّ باحثٍ جادٍّ عند كشفه لمشكل، أو عثوره على مُخبّأ، وأكثر ما يدلّه على الكشف والعثور بعد توفيق الله تعالى؛ قراءةٌ واسعةٌ، ودرايةٌ بما فقده إخوانه وأمثاله من الباحثين، فإنّ استحضار ذلك أثناء تصفّح المطبوع، وتقليب المخطوط، ومقابلة مخطوط بمطبوع؛ يُقرّب رؤية ما يُحتاج إليه، فيستخرج الباحث كتاباً مفقوداً، أو قطعة منه، أو رسالة فُقد بعضها، أو يسدّ بياضاً في مطبوع، أو يُتمّ سقطاً فيه، فيغمره أُنسٌ، لا يُمكن تفسير ماهيّته إلا بقولي: لذّة، قال أبو هلال العسكري في الفروق: (الّلذّة معنى نفسي)، يقصد أنّها كفرح الإنسان، وحُزنه، وغضبه، فلا يُفسّر الغضب -مثلاً- بحقيقته، وإنّما يُقرّب بقولنا: (الغضب ثوران دم القلب)، وثوران دم القلب نتيجة الغضب، لا حقيقته.
ولقد سبق ركبٌ من العلماء والباحثين في ميدان العلم الشريف، والتذّوا بوجد ما تمنّوه وتمنّاه غيرهم، ونشروه، وأفرحوا بنشره أوساطاً علمية، وانبعثت بسبب ذلك دراسات، وأفكار بحوث، ومنّ الله تعالى عليّ بقراءة رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومؤلفاته مرّةً بعد مرّة، وظهر لي في بعض المطبوع ما جعلني أقابله بالمخطوط لحلّ إشكال، أو تصحيح ما ظننته تحريفاً، أو إتمام نقصٍ يسيرٍ، ونشرت بعض ما عثرت عليه في صحيفة الجزيرة، في مقالين، أحدهما بعنوان: (جواب لم يُطبع للشيخ محمد بن عبد الوهاب)، والآخر بعنوان: (إسهام المخطوط في ضبط نصوص الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب).
وممّا وقعت عليه مطبوعاً، واستدعى مقابلته بالمخطوط: رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب بعث بها إلى محمد بن فارس، تفرّدت بنشرها الدرر السنية (10/ 90 - 91)، وأدخلت معها رسالة أُخرى، ورغبت جامعة الإمام محمد بن سعود في إعادة نشر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب محققة، وأفردت لرسائله مجلداً، وجعلت عنوانها: (الرسائل الشخصية)، إلا أنّ محققي الرسائل الشخصية لم يقفوا على نُسخة خطية لرسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لابن فارس، فاعتمدوا على عمل جامع الدرر السنية، وتابعوه، وعثرت بفضل الله تعالى على الرسالة كاملة، واستحسنت نشرها ليُفاد منها، وهي كما في المخطوط:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد بن فارس سلّمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: الواصل إليك مسألة التكفير من كلام العلماء ذاكر في الإقناع إجماع المذاهب كلّها على ذلك، فإن كان عند أحد حُجّة تُخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب فيذكرها وجزاه الله خير، وإن كان يبي يعاند كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء كلّهم ولا له جواب إلا ما أنا بمكفّر، أو قول: [هذولا(1)] ناس يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويفعلون كذا وكذا، ويُعرَض عليه كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء ولا يُصغي لهذا أبداً فاعرفوا أنّ هذا رجل معاند [ما هوب طلاب حق(2)]، وقد قال الله تعالى في كتابه (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)، فهذا صريح القرآن أنّ من اعتقد في الملائكة والأنبياء؛ كفرَ بعد إسلامه، فكيف يحلّ لمسلم أن يكذّب الله ورسوله وإجماع العلماء بكلمة سمعها من الزواوي أو غيره.
وقال تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، والذي يدلكم على هذا أنّ هالذي يتعذّرون بالتكفير يقرّون أنّ التوحيد حق وأنّ الشّرك باطل، وأنّ من دعا غير الله فهو مشرك، ويقولون: هذا حق، لكن مرادنا التكفير، وإذا تأمّلت إلى أنّ الموحّدين أعداء لهم يُبغضونهم [ويتنقّلون(3)] بهم، والمشركين والمنافقين هم ربعهم الذي يستأنسون لهم، ولكن هذه قد جرت من [رجاجيل(4)] عندنا في الدرعية والعيينة وغيرهم، إلى ارتدّ وأبغض الدّين وأحبّ المشركين تعذّر بالتكفير، يا سبحان الله كيف ينطق بهذه الكلمة رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ويقول ما أكفّر تاج وأمثاله، وهذه قراطيسهم مع [رايس(5)] ومع ابن سلطان(6) أنّ الإنسان إذا طلب الله الجنّة واستعاذ به من النّار لا يجوز لأنّه سوء أدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل الواجب عليه أن يطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل حاجاته، وإذا نخا عيال شمسان أو أبو حديدة، ولو [أراهم(7)] يزنون أو يسرقون فهذا حسن، وهم أبواب صغار يوصلونك إلى الباب الكبير الذي هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طلبته وصلك إلى الله، هذا في الرسالة الذي أرسلتموها خطّ قاضي اليمامة محمد بن عبد الرحمن، فإن كان ما فطنتوا لهذا [فذكروا(8)] لنا، وأرسلها لكم.
فإذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعوا كلهم على كفر من اعتقد في علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أحرقهم بالنّار مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصومون [ويصلون(9)] وأعظم ديانة من هذولا بكثير، [أنشدوا(10)] مبارك وأمثاله: هل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخطئون أراهم مكفرين الإسلام أو عندهم أنّ الذين اعتقدوا في علي ما يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون، أو يقولون إن جميع (11) الذين كفروا أهل الزهد والعبادة إذا اعتقدوا في مشايخهم مخطئين.
وبالحاضر الخط على عجلة فإن كان عند مبارك أو غيره شبهة عن الله ورسوله وعن العلماء فيذكرها، فإن كان يبي يعاند هذا كلّه فأنتم أبصر والسلام. انتهت الرسالة، ومخطوطها محفوظ في مكتبة شقراء العامة، برقم 216، ص3، 4، وانتقل إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، ضمن مخطوطات مكتبة شقراء.
الحواشي:
(1) يعني: هؤلاء.
(2) يعني: ليس طالب حق.
(3) في (الدرر السنية): (ويستثقلونهم).
(4) يعني: رجال.
(5) هكذا ظهرت لي في المخطوط.
(6) في (الدرر السنية) بعد كلمة (ابن سلطان): بياض بمقدار كلمة.
(7) يعني: رآهم، والشيخ عبّر باللهجة الدّارجة كما يفعل أحياناً هو وغيره من علماء نجد.
(8) يعني: فاذكروا.
(9) هذا ما ترجّح لي، والكلمة غير واضحة.
(10) يعني: اسألوا.
(11) يوجد بياض بمقدار كلمة بعد كلمة (جميع) وقبل كلمة (الذين).