د. تنيضب الفايدي
عسفان بضم العين وسكون السين منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، سميت عسفان بعسفان لتعسف الليل فيها، كما سميت الأبواء لتبوّء السيل بها، وقيل: بلدة تاريخية عامرة، تقع شمال مكة على المحجة إلى المدينة النبوية، ويلتقي فيها واديان: وادي فيدة ووادي الصغو، فيها آبار عذبة قديمة مجصصة، منها بئر التفلة تشبه في عذوبتها بئر الجعرانة، وبئر عسفان حيث اشتهرت بعذوبة مياهها وغزارتها، ويشرف على البلدة من جميع نواحيها حرار سود، وتفترق منها ثلاث طرق: إلى المدينة، وإلى مكة، وإلى جدّة. وتعد عسفان عقدة مواصلات في هذه الناحية، ومنهلاً من مناهل البادية، وبوابة استراتيجية مهمة في قلب الحجاز، لذلك اكتسبت أهمية استراتيجية بدأت مع بداية طريق القوافل من اليمن إلى الشام قبل البعثة النبوية، كما كانت موقعاً مهماً فيما بعد للقوافل الدينية بين مكة والمدينة، حيث تستريح القوافل في عسفان للتخلص من وعثاء السفر وأتعابه والتزود بما تحتاجه من غذاء وماء، ونظراً لأهميتها فقد ذكرها معظم المؤرخين في كتبهم، قال الحموي: «عُسْفان بضم أوله وسكون ثانيه ثم فاء، وآخره نون، فعلان من عسفت المفازة وهو يعسفها وهو: قطعها بلا هداية ولا قصد، قال: سميت عسفان لتعسف السيل منها، قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. وقال غيره: عسفان بين المسجدين وهي من مكة على مرحلتين، وقيل: عسفان قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلاً من مكة وهي حدّ تهامة، ومن عسفان إلى ملل يقال له الساحل، وملل على ليلة من المدينة». وقال البكري: «عُسْفان: قرية جامعة وهي لبني المصطلق من خزاعة، وهي كثيرة الآبار والحياض». وقال المهلبي العزيزي: «وبين عسفان وبين الجحفة واحد وخمسون ميلاً، ومن عسفان إلى بطن مر ثلاثة وثلاثون ميلاً، ثم إلى مكة تسعة عشر ميلاً، فبين عسفان وبين مكة اثنان وخمسون ميلاً». وقال عبد المؤمن البغدادي: «بضم أوله، وسكون ثانيه، ثم فاء، وآخره نون، قيل: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، وقيل: عسفان بين المسجدين، وهي من مكة على مرحلتين، وقيل: هي قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلاً من مكة وهي حدّ تهامة، وبين عسفان إلى ملل موضع يقال له الساحل. وقال ابن بطوطة: «هي في بسيط من الأرض بين جبال، وبها آبار ماء معين تنسب إحداها إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمدرج المنسوب إلى عثمان أيضاً على مسافة نصف يوم من خليص هو ميق بين جبلين وفي موضع منه بلاط على صورة درج أثر عمارة قديمة هنالك بئر تنسب إلى النبي عليه السلام ويقال إنه أحدثها بعسفان حصن عتيق وبرج مشيد قد أوهنه الخراب وبه من شجر المقل كثير، ثم رحلنا من عسفان ونزلنا بطن مر ويسمى أيضا مر الظهران». وقال الحميري: «بلد بين مكة والمدينة، بينها وبين مكة تسعة وأربعون ميلاً، وبينها وبين البحر عشرة أميال، وفيها آبار عذبة، وبين عسفان وقديد أربعة وعشرون ميلاً، وعسفان كثيرة الأهل خصيبة، ماؤها من الآبار، وقال كثّير:
قلن عسفان ثم رحن عشاء
قاطعات ثنّية من غزال
وكان تُبّع ملك اليمن أتاه نفر من هذيل، وهو بين عسفان وأمج، هو وادي خليص حالياً فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، يريدون الكعبة... إلى آخر القصة، ذكرها ابن إسحاق وربما كان في عسفان غدران بين أراك وأم غيلان، وبين الجحفة وعسفان غدير خم، وهو الذي دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تنقل حماه إلى مهيعة لما استوبأ المهاجرون المدينة». وقال محمد الكبريت: «هي قرية جامعة على نحو يومين من مكة، بها آبار وبرك وعين تعرف بالعولاء، ينقل ماؤها إلى مكة للتبرك به». وقال السويدي البغدادي: «وتليها مرحلة بين عسفان ووادي فاطمة، نزلنا في بر أفيح لا ماء فيه، ومررنا على عسفان، وفيه ثغر وعرذ وجنادل كبار وشعوب من السيل ولذلك سمي الموضع بعسفان لعسف السيول، وفيه صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، والمسافة خمسة عشر فرسخاً. وقال البلادي: «عسفان بضمّ العين وسكون السّين، وفاءٍ وألفٍ، وآخره نونٌ، جاءت في النّصّ: قال ابن إسحاق: وكان تُبّع وقومه أصحاب أوثانٍ يعبدونها، فتوجّه إلى مكة، وهي طريقه إلى اليمن، حتّى إذا كان بين عسفان وأمج، أتاه نفرٌ من هذيل بن مدركة... إلخ.
وقد وردت عسفان في مصادر السيرة النبوية والحديث كثيراً، منها ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. رواه البخاري، كما نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعاً من الإبل في غزوة بدر، وقد جاء ذكرها في غزوة الحديبية أيضاً حيث أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في هذا المكان عند بعض العلماء، كما عرفت عسفان بأنها موقع غزوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غزا بني لحيان بعسفان بعد نـهاية السنة الخامسة للهجرة بشهرين، فقد تجرأت قبائل لحيان وهذيل للإيقاع بسرية عاصم بن ثابت وأصحابه عند الرجيع فقتلوهم إلا اثنين هما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، أسروهما وباعوهما إلى قريش فقتلا. وقصتهم أن وفداً من بني لحيان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة متظاهراً بالإسلام وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل بعثة من أصحابه تعلّم بني لحيان شرائع الإسلام، فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الطلب، فأوفد معهم بعثة تعليمية من خيرية أصحابه تتكون من عشرة أنفار على رأسهم البطل المشهور (عاصم بن ثابت)، غير أن هذه البعثة لم تكد تصل ديار بني لحيان حتى غدر بها هؤلاء الخونة، فاستشهد جميع أفراد هذه البعثة حيث قتلوا جميعهم غدراً. وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم وأصحابه وجداً شديداً، فعسكر في مائتي رجل ومعهم عشرون فرساً، وأظهر أنه يريد الشام كما هي عادة النبي صلى الله عليه وسلم في تضليل العدو الذي يريد مهاجمته حتى لا يمكن للجواسيس الموجودين في المدينة معرفة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم إخبار العدو بهذا القصد، تحرك بجيشه حتى نـزل وادي عسفان، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وخرج، فترحّم عليهم ودعا لهم. لقد بذلت قيادة الجيش النبوي قصارى جهدها في اتباع طريق السرية والكتمان ليأخذوا الغادرين على حين غرة ويقتصوا منهم للشهداء المغدور بهم، ولكن نجح بنو لحيان بالفرار برؤوس الجبال؛ لأنهم كانوا على غاية التيقظ والانتباه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، واستمرت البحث والمطاردة يومين كاملين إلا أنها لمجد أي أثر لهذه القبائل، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين في أرضهم لإرهابهم وتحديهم وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم.
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتنام هذه الفرصة فاستخدم لتخويف مشركي مكة، حيث أرسل أبا بكر الصديق رضي الله عنه مع عشرة فوارس نحو مكة ليبث الذعر والفزع في نفوسهم فاتجه الصديق رضي الله عنه بالفرسان العشرة نحو مكة حتى وصل بهم كراع الغميم، وهو مكان قريب جداً من مكة.
قال الأعرابي:
لقد ذكرتني عن حباب حمامة
بعسفان أهلي فالفؤاد حزين
فويحكِ كم ذكرتني اليوم أرضنا
لعل حمامي بالحجاز يكون
فو الله لا أنساكِ ما هبت الصّبا
وما أخضر من عود الأراكِ فنونُ
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بين عسفان وضجنان، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعسفان والمشركين بينه وبين القبلة فصلى بهم صلاة الخوف. رواه أبو داود. وروى عطاء عن ابن عباس قال: حاضر المسجد الحرام عُسفان وضجنان ومرّ الظهران، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، صام حتى أتى عسفان ثم أفطر. وقال عيسى التركي صاحب تكريت:
وما ذاتُ طوقٍ في فروعِ أراكةٍ
لها رنّةٌ تحت الدُّجى وصدوحُ
ترامت بها أيدي النوى وتمكّنتْ
بها فُرقة من أهلِها ونزوحُ
فحلّت بزوراءِ العراقِ وزُغبُها
بعُسفان ثاوٍ منهم وطليحُ
إذا ذكرتْهم هيّجت ذا بلابلٍ
وكادت بمكتومِ الغرامِ تبوحُ
بأبرح من وجدي لذكراكمُ متى
تألق برقٌ أو تنسّم ريحُ
وتوجد في شمالها مستوطنة مندثرة، على سطحها كسر فخارية وخزفية يعود تاريخها إلى عصور إسلامية مختلفة. كما تحتوي عسفان عدداً من المعالم التاريخية من آبار تاريخية وينابيع طبيعية مثل: بئر التفلة وبئر عسفان وبئر عثمان، وعين شعثاء وموقع البرك وثنية عسفان وسوق عسفان، ومن أهمها مسجد البيعة وهو المكان الذي شهد بيعة العقبة الثانية حيث بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم على النصرة والدفاع عنه وعن الإسلام. وقلعة عسفان، وهي من أبرز المعالم التاريخية التي أنشئت لحماية الطرق وقوافل التجارة والحجاج قديماً، يرجع ذكرها إلى القرن السادس الهجري، وذلك أثناء سيطرة الدولة الأيوبية على المنطقة، والقلعة بنيت من الصخور البازلتية التي جلبت من مناطق جبلية مجاورة لموقعها، كما شكلت الصخور النارية الجرانيتية مادة البناء الرئيسة مع مادة النورة الخاصة باللصق. وهي من القلاع التي أنشئت مطلع القرن الرابع عشر الهجري، عام 1305هـ/1887م ضمن سلسلة من القلاع الصغيرة الممتدة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة لحماية الحجاج، وتتمتع بمواصفات القلاع من حيث الأبراج ومخازن السلاح وبعض الحجرات الداخلية الخاصة بقاطني القلعة. ذكر هذه القلعة الرحالة ابن جبير الذي قدم إلى الحج عام 578هـ/1182م على أنها حصن عتيق البنيان ذو أبراجٍ مشيدة أثر فيها القدم وأوهتها قلة العمارة ولزوم الخراب.
كما تتمتع عسفان بالمظاهر الطبيعية الخلابة كالكثبان الرملية والحرات البركانية والسهول ذات الرمال الذهبية وهي تجذبك إليها للزيارة والسياحة فهي جديرة للوجهة السياحية الممتعة.
أما اليوم فعسفان بلدة جميلة نالت مظاهر النهضة الحضارية حيث توجد فيها جميع الخدمات الحكومية من المدارس والمراكز الصحية والبلدية والدوائر الحكومية والجهات الخدمية الأخرى والحدائق والمنتزهات وغيرها، وأصبحت مركزاً لتقديم الخدمات للمحافظات من حولها.
المراجع
معجم البلدان للحموي، المسالك والممالك للمهلبي، السيرة النبوية لابن هشام، الطبقات الكبرى لابن سعد، مراصد الاطلاع للبغدادي، الروض المعطار للحميري، رحلة ابن بطوطة، رحلة الشتاء والصيف للكبريت، عيون الأثر لابن سيد الناس، صلح حديبية لـ: باشميل، معالم مكة التاريخية والأثرية للبلادي، نفحات أدبية عن درر ومواقع مكية للدكتور/ تنيضب الفايدي، سعوديبيديا.