د. منى بنت سعيد القحطاني
ماذا سيحدث حين يدخل الذكاء الاصطناعي إلى التعليم العام؟ سؤال لم يعد افتراضًا بعيدًا، بل واقع بدأت ملامحه تتشكل مع قرار وزارة التعليم في المملكة العربية السعودية إدخال منهج الذكاء الاصطناعي إلى المقررات الدراسية.
إنها لحظة مختلفة، لا تشبه مجرد تحديث كتاب أو إضافة وحدة جديدة، بل أشبه بفتح نافذة واسعة على المستقبل من داخل الصف. ما الذي يعنيه أن يتعلم طلابنا عن الذكاء الاصطناعي منذ المراحل الأولى؟ وكيف سيتغيّر دور المعلم حين يجلس إلى جواره «عقل رقمي» يرصد ويحلل ويقترح؟
من يظن أن الذكاء الاصطناعي سيقصي المعلم يقرأ المشهد من زاوية ضيقة. فالمعلم ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل صانع للمعنى وموجّه للقيم، ومثير للأسئلة التي تفتح العقول. وحده القادر على أن يقرأ خلف النظرات، وأن يلتقط لحظة ضعف أو ومضة حماس في عيني طالب، فيغيّر مسار التجربة كلها. هذه اللمسات الإنسانية الدقيقة لا يمكن لخوارزمية أن تقوم بها مهما بلغت من التطور.
سيبقى المعلم هو الروح التي تمنح التعليم دفئه، والعقل الذي يفتح أمام الطلاب آفاق الخيال.
ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي ليس خصمًا للمعلم، بل شريك جديد يضاعف أثره. فهو قادر على تتبع تقدم الطلاب بدقة، واكتشاف مكامن القوة والاحتياج، وتقديم توصيات تساعد في اتخاذ قرارات أسرع وأكثر فاعلية. في صف يضم عشرات الطلاب، يمنح الذكاء الاصطناعي المعلم صورة واضحة لكل طالب على حدة. ليست منافسة بين إنسان وآلة، بل تكامل يخلق تعليمًا أكثر إنسانية وذكاءً في الوقت ذاته.
خطوة وزارة التعليم بإدخال الذكاء الاصطناعي إلى المناهج تنسجم مع التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة في إطار رؤية 2030. فالرؤية جعلت الابتكار محركاً أساسياً للتنمية، ووضعت التقنية في قلب مشروعها الوطني. التطور في السعودية لم يعد يسير ببطء، بل يقفز قفزات لافتة تبني بنية رقمية متقدمة وتطلق مبادرات نوعية في مجالات الذكاء الاصطناعي. ومن هنا، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم ليس حدثًا عابرًا، بل جزء من مشروع وطني عميق يهدف إلى بناء إنسان مبدع، منافس عالميًا، وصانع للمستقبل بدل أن يكون مجرد مستهلك له.
تخيلوا صفًا بعد سنوات قليلة: معلم يقود الحوار ويحفّز التساؤل، بينما شاشة ذكية تعرض بيانات لحظية عن استيعاب الطلاب وتقترح أنشطة إضافية وتحدد من يحتاج إلى دعم أكثر. هنا تتضح صورة المملكة الجديدة: وطن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يستثمر في الإنسان باعتباره أثمن موارده، وفي الذكاء الاصطناعي باعتباره أسرع جسور العبور إلى المستقبل.
إن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم لا يقلل من دور المعلم، بل يمنحه قوة إضافية. فهو يحرره من الأعمال الروتينية، ليتيح له وقتًا أكبر للقيام بمهمته الأسمى: بناء القيم، وتنمية الخيال، وصناعة الإنسان. وما يبدو اليوم مجرد بداية لمقرر دراسي، قد يتحول غدًا إلى نقطة تحول تغيّر طريقة التعليم كلها.
ما يحدث اليوم في تعليمنا ليس مجرد إدخال مقرر جديد، بل هو امتداد لمسار طويل من تطوير المناهج ومواكبتها لكل مرحلة يمر بها وطننا. خطوة الذكاء الاصطناعي ليست معزولة، بل حلقة من حلقات رؤية شاملة تجعل الابتكار قلب التنمية.
المعلم سيبقى القائد بعقله وروحه، والذكاء الاصطناعي سيكون الرفيق الذي يضاعف أثره بالدقة والبيانات. وربما لا ندرك اليوم حجم التحول، لكن المستقبل سيشهد أن هذه الخطوة كانت الشرارة التي جعلت تعليمنا أكثر إنسانية وأكثر ذكاءً، وجعلت المملكة تفتح أبواب الغد بثقة. هنا يولد جيل لا يقف عند حدود الممكن، بل يتخطاه ليكتب مع وطنه ملامح المستقبل..
** **
- خبيرة تربوية في تطوير وتصميم المناهج