عبدالوهاب الفايز
في مقال الأسبوع الماضي كان الحديث حول الفرص المتاحة في الاقتصاد الوطني لخفض نسبة البطالة إلى أقل من 5 % بحلول عام 2030. وأجزم أن هذا ممكن، فالخير في بلادنا كثير، وتنوع وحجم الاقتصاد السعودي تتيح توسيع فرص العمل للسعوديين مع تحسين مستوى الدخل. وتراجع الإيرادات النفطية، والمتوقع أن يستمر في الأعوام المقبلة، يقدم فرصة لاكتشاف الإمكانات الذهبية في اقتصادنا، بالذات في القطاعات الجديدة مثل البيئة الذي تحدثنا عنه الأسبوع الماضي.
اليوم نقف عند قطاع التقنية والاقتصاد الرقمي (الاقتصاد الرقمي يشمل مجموعة واسعة من الأنشطة مثل التجارة الإلكترونية، الخدمات السحابية، والتقنيات الناشئة).
والأسبوع قبل الماضي شهدنا إطلاق تطبيق الذكاء الاصطناعي «هيوماين تشات»، وهذه نقلة نوعية جديدة لتوطين منتجات هذا القطاع ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
ومن أبرز الاحتياجات أيضاً إطلاق تطبيق محادثه سعودي، والمختصون في أمن المعلومات كتبوا منذ سنوات في الصحافة المحلية عن أهمية مثل هذه التطبيقات لحماية أمننا الوطني.
وهنا نتذكر نموذج التطبيق الصيني WeChat الذي تحول إلى منصة متكاملة للخدمات اليومية التي يحتاجها الناس؛ فبعد سنوات من إطلاق هذا التطبيق أصبح لدى السلطات الحكومية الصينية قواعد بيانات ضخمة عن السلوك الاستهلاكي والاجتماعي والمالي والتحول الديموغرافي.. وغيرها، وهذه تحقق قيمة مضافة لتطوير الخدمات الحكومية، وإعادة بناء الاستراتيجيات الوطنية، وأيضاً توفر لقطاع الأعمال الفرصة لتوليد منتجات وتطبيقات جديدة.
ومثل هذه التطبيقات توفر مظلة وطنية للأمن الاجتماعي والنفسي، وتساعد في حماية المواطنين من المحتوى التجاري الاستهلاكي المنفلت من الضوابط القانونية والأخلاقية والوطنية. أغلب الناس المشغولة بتحسين معاشها تحتاج التطبيقات التي تساعدها في تحديات الحياة اليومية، وتساهم في التربية الوطنية.. وهذا ما نجحت فيه الصين في مشوار بناء الدولة، وبناء المواطن الصالح.
بالنسبة لنا في المملكة وبعد الاستثمار المكثف في التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، ومراكز البيانات، والتجارة الإلكترونية، تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الرقمي قد يسهم بأكثر من 19 % من الناتج المحلي السعودي بحلول 2030، مع توقعات بخلق عشرات الآلاف من الوظائف للشباب في مجالات البرمجة، والأمن السيبراني، والتحليلات الرقمية.
لذا، وفي ظل التحديات العالمية المستجدة للاقتصاد السعودي، القطاع الرقمي يقدم فرصة استراتيجية لتحقيق التنويع الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على النفط. وفقاً لتقارير حديثة، بلغ حجم الاقتصاد الرقمي في المملكة حوالي 495 مليار ريال سعودي في عام 2024، مساهماً بنسبة 15 % في الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يجعله محركا نوعيا لتوليد فرص العمل للشباب.
الاقتصاد الرقمي يمكن أن يكون حلاً فعالاً لمواجهة تحدي البطالة. لقد أوجد أكثر من 381,000 وظيفة متخصصة في مجال التكنولوجيا في المملكة. في عام 2025 وحده، ساهم القطاع في إنشاء أكثر من 250,000 فرصة عمل جديدة، مدعوماً بنمو سوق البرمجيات بنسبة 11 % سنوياً، واستثمارات تصل إلى 11.2 مليار دولار في البنية التحتية الرقمية.
الذكاء الاصطناعي في السعودية سيؤدي إلى زيادة صافية في الوظائف بنسبة 23 % بحلول 2030 لأنه يعزز النمو الاقتصادي، يخلق قطاعات جديدة، ويحسن الإنتاجية، مما يساعد في توظيف الخريجين الجدد وتعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل. طبعا هذا ربما يناقض الانطباع العام بأنه يقلص الوظائف.
الإعلام الباحث عن الإثارة والتشويق يركز على تقلص الوظائف ذات المهام الروتينية، ويتجاهل توليد الوظائف. بالنسبة لنا ومع الاستثمار في التدريب والتعليم، يمكن تحويل هذا التحدي إلى فرصة.
نحتاج توسيع برامج التدريب الرقمي، مثل تلك التابعة لأكاديمية طويق أو المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، لتغطية 150,000 وظيفة إضافية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، كما يجب تشجيع الشراكات العالمية لنقل المعرفة، مع الحرص على (سعودة الوظائف) لضمان استدامة التأثير على سوق العمل المحلي.
أيضا نحتاج توطين الوظائف في القطاع لحساسيته لـ(لأمن الوطني). في عصر التهديدات السيبرانية المتزايدة، يصبح الاقتصاد الرقمي جزءاً أساسياً من استراتيجية الأمن الوطني. حققت المملكة تصنيفاً عالمياً في مؤشر تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لعام 2025، وهذا يعكس تقدماً في البنية التحتية الرقمية. والحفاظ على هذا التقدم يتطلب تعزيز الإجراءات الأمنية، خصوصاً مع التوسع في مشاريع (الإسناد الخارجي) لخدمات المعلومات. التوسع في الإسناد أثره الخطير يتجاوز تقليص فرص العمل للمواطنين؛ هو من اخطر التحديات الأمنية لبلادنا. والمخاطر الأمنية البارزة لنقل البيانات والاتصالات من السعودية إلى الخارج متعددة وتتعلق بالحماية الرقمية والسيادة الوطنية.
وفقاً لنظام حماية البيانات الشخصية (PDPL) وإرشادات الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA)، تشمل أبرز هذه المخاطر:
1 - فقدان السيطرة على البيانات والمساس بالسيادة الرقمية: عند نقل البيانات إلى دول أخرى، قد تفقد المملكة السيطرة عليها، مما يعرضها للوصول الحكومي أو التنظيمي في تلك الدول، مثل قوانين الوصول إلى البيانات في الولايات المتحدة أو أوروبا. هذا يمثل خطراً على الأمن الوطني والسمعة.
2 - تعرض البيانات للاختراقات السيبرانية والتهديدات: قد تكون البنية التحتية في الدول المستقبلة أقل أماناً، مما يزيد من احتمالية الاختراق، التنصت، أو سرقة البيانات من قبل مصادر تهديد داخلية أو خارجية (مثل الهاكرز أو الجهات الحكومية). يشمل ذلك الثغرات في التدابير الأمنية، مثل عدم التشفير الكافي أو ضعف الإجراءات التنظيمية.
3 - انتهاك خصوصية الأفراد وحقوقهم: نقل البيانات الحساسة (مثل المعلومات الصحية أو المالية) قد يؤدي إلى انتهاك خصوصية الأفراد إذا لم يكن مستوى الحماية في الدولة المستقبلة مماثلاً للمملكة، مما يعرض أصحاب البيانات للضرر الشخصي أو الاجتماعي.
4 - مخاطر مرتبطة بالامتثال القانوني: عدم إجراء تقييم مخاطر كافٍ قد يؤدي إلى انتهاكات قانونية، مثل عدم الالتزام بقوانين (اللائحة العامة لحماية البيانات) الصادرة في الاتحاد الأوروبي عام 2018. وهي من أقوى وأشهر القوانين في العالم لحماية خصوصية الأفراد وبياناتهم الرقمية.
هذه البيئة الأمنية الدولية الجديدة تتطلب وضع قوانين صارمة لحماية البيانات الوطنية وضرورة الإسراع في معالجة ظاهرة الإسناد الخارجي. طبعا الأفضل لنا على المدى البعيد هو زيادة الاستثمار في مراكز البيانات المحلية، وتطوير برامج تدريبية لـ(100,000) متخصص في الأمن السيبراني بحلول 2030، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الدولي تحت مظلة رؤية 2030 لمواجهة التهديدات العابرة للحدود. هذا سيضمن أن يكون الاقتصاد الرقمي درعاً للأمن الوطني بدلاً من نقطة ضعف.
أمام هذه الفرص الاقتصادية والتحديات الأمنية، ولضمان أن يصبح الاقتصاد الرقمي رافعة رئيسية لتوليد الوظائف، هناك خطوات إستراتيجية ضرورية تم طرحها والتأكيد عليها سابقا من قبل المختصين مثل:
1 - توطين البيانات والتقنية عبر مراكز بيانات محلية وتشريعات صارمة لحماية المعلومات الوطنية.
2 - إطلاق منصة رقمية وطنية شاملة تدمج الخدمات الحكومية والتجارية والمالية، وتفتح مجالًا لمئات الشركات الناشئة.
3 - تأسيس (صندوق سيادي رقمي) يستثمر في الشركات السعودية الناشئة بدل الاعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية فقط.
4 - توسيع التعليم والتدريب الرقمي لخلق جيل قادر على سد فجوة المهارات وتحويل التقنية إلى ثروة محلية.
ثمة فائدة أخرى. نمو القطاع الرقمي يساعدنا على استيعاب وتشغيل الموارد البشرية المتخصصة سواءً في الوظائف التقليدية الفائضة في بعض القطاعات التي تم تخصيصها أو إسنادها للخارجي.
كما ذكرنا، في عام 2025 وحده، ساهم القطاع الرقمي في خلق أكثر من 250 ألف وظيفة جديدة، تركزت في مجالات البرمجة، الأمن السيبراني، البيانات الضخمة، والتجارة الإلكترونية. هناك وظائف جديدة تعيد تشكيل سوق العمل بالكامل: فالمحاسب التقليدي يتحول إلى محلل بيانات مالية، وموظف العلاقات العامة يصبح مديرًا للمحتوى الرقمي، وموظف الصادر والوارد يتحول إلى مختص أرشفة رقميه، والمختص الأمني (المتقاعد) يطور خبراته إلى «محلل تهديدات سيبرانية»، وهكذا تتوسع فرص العمل.
بيدنا طفرة نوعية لتوسيع مسارات سوق العمل.. وليست مجرد إضافة كمية في أعداد الوظائف!