رمضان جريدي العنزي
كنت صغيراً وكانت الرياض كفجرٍ يتهادى على كثبانٍ هادئة، مدينة محدود المساحة، واسعة القلب، شوارعها قليلة لكن الألفة فيها بلا حدود، تتسابق النوافذ بالضياء، والقناديل المعلقة في البيوت، كأنها لؤلؤة تستريح بين كثبانٍ من السكينة، أما البطحاء فكانت سوقٌ وروح، مولنا الوحيد، ومسرح أيامنا، تفوح منه رائحة التمر والقهوة ورائحة مطاحن الدقيق، ومحلات بيع البهارات والأقمشة والمشغولات اليديوية والملابس والعطور وتغنيه أصوات الباعة بنغمٍ لا ينسى، وتتداخل فيه خطى الناس كأنها أنغام قصيدة، كانت الرياض في تلك الأيام أبسط من أن تُرهقنا، وأجمل من أن تُنسى، مدينة صغيرة على الأرض، لكنها واسعةٌ في الذاكرة، تسكننا كلما امتدت بنا الطرق وتغير الزمان، كانت الرياض في عقودها الماضية مدينةً صغيرة المساحة، محدودة الأحياء، لكنها تحمل في قلبها دفئًا لا يُنسى، لم تكن الأبراج ولا المراكز التجارية قد ارتسمت على أفقها بعد، بل كانت ملامحها أوضح، وذاكرتها أصدق، والناس فيها أقرب لبعضهم بعضًا، كانت الرياض في عيني لوحة هادئة مرسومة بخطوط الرمل والنخيل، شوارعها ضيقة، تحتضن بيوت الطين التي تحكي قصص المجد، وأسواقها الصغيرة، كان صوت الأذان يتردد في أرجائها، يجمّع الناس في مساجدها المتواضعة، وكأن الزمن يمشي بخطى وئيدة، لا يعرف العجلة، كنت أركض في أزقتها، حيث الجيران يتبادلون السلام بحرارة، والأبواب مفتوحة كقلوب أهلها، كانت الرياض مدينة تعرف أبناءها بأسمائهم، وكل ركن فيها يحمل ذكرى ضحكة أو لعبة، لم تكن هناك ناطحات سحاب تخترق السماء، ولا طرق تمتد إلى ما لا نهاية، بل كانت هناك بساطة تحكي قصة أرضٍ تعيش في وئام مع رمالها، في قلب الرياض القديمة، كانت الحياة تدور حول المسجد والسوق والجيرة، المساجد المتواضعة، بمآذنها القصيرة، كانت ملاذًا للأرواح، حيث يجتمع الناس للصلاة والحديث عن أحوال الدنيا، وفي الأسواق، مثل سوق المعيقلية وسوق الزل، كانت الأيدي تتبادل السلع والقلوب تتبادل الود.
لم تكن الرياض مجرد مدينة، بل كانت عائلة كبيرة، كل فرد فيها يعرف الآخر، وكل بيت يحمل قصة، كانت الأمسيات هادئة، إلا من صوت أو ضحكات العائلات التي تجتمع حول موقد الحطب، السماء صافية، مرصعة بالنجوم، وكأنها تعكس نقاء تلك الأيام، لم تكن هناك أبراج زجاجية، ولا شوارع مكتظة بالسيارات، ولا زحام سكان، ولا اكتظاظ بشر، بل كانت هناك أرواح متصلة بالأرض، تحيا على إيقاع الطبيعة والتقاليد.
اليوم، أقف على أطراف الرياض الجديدة، حيث الأضواء الساطعة والأبراج الزجاجية تملأ الأفق، المدينة كبرت، وصارت قلبًا نابضًا بالحياة، لكن في زاوية من قلبي، لا تزال الرياض الصغيرة تعيش، تلك الرياض التي كانت بمثابة حضن دافئ، حيث كل حجر فيها يحكي حكاية، وكل نسمة تحمل عبق الماضي، اليوم، وأنا أتخيل تلك الأزقة، أشتاق إلى صوت الرياض القديمة، إلى رائحة الطين بعد المطر، وإلى دفء الجيرة الذي كان يجمع الناس، إلى حي المطار القديم الذي عشت فيه طفولتي، وإلى حي السليمانية التي فيها مدرستي الفرزدق الابتدائية، الرياض كبرت، وصارت عروس المستقبل الزاهية، لكن في قلبي تبقى تلك المدينة الصغيرة، حيث شارع العصارات والثميري والأعشى ودخنة والظهيرة والناصرية وأم الحمام ومنفوحة والمصمك والمعيقيلة والعود وحلة العنوز وحلة القصمان وطويق والمرقب وسويقة وسوق الزل تنبض بذكريات حيَّة لا تموت.