أورنيلا سكر
من القيود إلى الإبداع
قبل سنوات قليلة، كانت الشاشة السعودية تكاد تخلو من الضوء السينمائي، فالمهرجانات المحلية كانت غائبة، ودور العرض شبه معدومة، والحديث عن السينما كان يُقتصر على الهواية الفردية والمناسبات الخاصة. لكن التحولات التي أحدثتها رؤية السعودية 2030 قلبت المشهد رأسًا على عقب، لتضع المملكة على خارطة السينما الإقليمية والعالمية، بعد أن وفرت البيئة التشريعية والثقافية الداعمة لصناعة الأفلام المحلية، وأطلقت برامج تمويلية وتدريبية للمخرجين الشباب.
فالأفلام السعودية بدأت تأخذ مكانها على المنصات الدولية، وتُنافس في أرقى المهرجانات السينمائية. فيلم «وجدة» للمخرجة هيفاء المنصور كان علامة فارقة؛ إذ قدم صورة واقعية وملهمة للمرأة السعودية، وشارك في مهرجان تورنتو الدولي، وكان أول فيلم سعودي يُرشح للأوسكار. كما أن أفلام مثل «قمر 14» و»السيدة الثانية» جسدت قدرة السينما السعودية على المزج بين القصص المحلية واللغة العالمية للفن، وهو ما يجعلها نموذجًا فريدًا في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، لا يزال التحدي قائمًا في إنتاج أعمال تحمل جرأة فنية وعمقًا اجتماعيًا، بعيدًا عن المعايير التقليدية، لتصبح السينما السعودية بالفعل قوة ثقافية قادرة على المنافسة.
السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي مرآة المجتمع وناقل ثقافته. الأفلام السعودية تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتناقش قضايا مثل تمكين المرأة، والتمازج بين الأصالة والحداثة، والصراعات الثقافية بين الماضي والحاضر. ومن خلال هذه الرؤية، تصبح السينما أداة لإعادة رسم صورة السعودية داخليًا وخارجيًا، بما يعكس هوية وطنية متجددة وقيمًا ثقافية عميقة.
ولا تقتصر وظيفة السينما السعودية على الجمهور المحلي؛ فهي باتت أداة للدبلوماسية الثقافية، تعكس الانفتاح والإبداع السعودي أمام العالم. المشاركة في مهرجانات مثل كان وتورنتو وفينيسيا، وعرض الأفلام الوثائقية التي تسلط الضوء على التراث والمجتمع السعودي، يعزز النفوذ الثقافي للمملكة ويقدم نموذجًا للثقافة السعودية الحديثة، تمامًا كما فعلت دول مثل كوريا الجنوبية وفرنسا.
وبينما تتقدم السينما السعودية خطوات ثابتة نحو الريادة الإقليمية والعالمية، تظل أمامها تحديات تتعلق بالتمويل، وتطوير الكوادر السينمائية، وصناعة النصوص الأصيلة ذات العمق الفني. ومع ذلك، فإن النجاحات الدولية الأخيرة تُظهر أن المملكة تمتلك القدرة على إنتاج سينما ذات هوية قوية وموثوقة عالميًا، قادرة على الجمع بين الأصالة والحداثة، وفتح أفق جديد من التأثير الثقافي والدبلوماسي.
السينما السعودية اليوم ليست مجرد فيلم يُعرض على الشاشة، بل حكاية نجاح وطنية، تعكس رحلة تحول مجتمع كامل، وتجسد إرادة ثقافية لمملكة تتطلع إلى الريادة والفن والابتكار.
** **
- كاتبة لبنانية