مرفت بخاري
أصابع صغيرة تجرجر الوقت، وعيون غائرة تبتلع الصور المتلاحقة بلا شبع. ضحكة عابرة، دمعة مصطنعة، وصرخة بلا صدى... كلّها تنزلق في نهرٍ سريع لا يترك وراءه سوى فراغٍ بارد.
إنه جيل التيك توك، جيل يعيش وهم الحرية بينما تُساق مشاعره بخيوط خفية، كدمى تتحرك فوق مسرح رقمي صاخب. وهنا يكمن الاستياء الحقيقي: أن تُسرق لحظة الفرح، وتُفصَّل لحظة الحزن، وتُهندس العاطفة كما لو كانت مقطعًا قصيرًا لا يتجاوز دقيقة.
وفي زمن السرعة، لم يعد الإنسان قادرًا على الصبر أمام محتوى طويل. صارت الضحكة، الدرس، وحتى الرسالة الإنسانية تختصر في ثوانٍ معدودة. هذه الثقافة السريعة زرعت داخل الجيل عادة جديدة: البحث عن الإشباع الفوري بدلًا من العمق. وهنا يُطرح سؤال: هل نحن أمام جيل ذكي يواكب التغير، أم أمام جيل فقد القدرة على التأمل الطويل؟
علماً بأن الكبار يرون هذا الجيل سطحياً، أسيرًا للتفاهة والوقت الضائع. لكن أبناء جيل التيك توك يرون أنفسهم أذكى، أسرع، وأكثر قدرة على مواكبة اللحظة. الصراع بين النظرتين يفتح فجوة أكبر: جيل قديم يخاف ضياع القيم، وجيل جديد يرى أن السرعة ليست ضعفًا بل أسلوب حياة.
والسر الذي يجعل تيك توك مختلفًا هو أن ما يظهر أمامك ليس عشوائيًا. التطبيق يراقب كل حركة صغيرة: كم ثانية توقفت عند فيديو، أي مقطع أعدت تشغيله، حتى تردّدك قبل أن تتجاوزه. الذكاء الاصطناعي يحوّل هذه التفاصيل إلى «بروفايل شعوري»، يعرف حالتك النفسية في اللحظة ذاتها. إن توقفت عند مشهد حزين، سيغرقك في موجة مقاطع مشابهة، وإن ضحكت، سيفتح لك مهرجانًا من الضحك. تشعر أن المنصة «تفهمك»، لكنها في الحقيقة تدير عالمك وفق ما يبقيك أطول أمام الشاشة.
وسط هذا الضجيج الرقمي، أعلن وزير الإعلام السعودي عن ضوابط جديدة للمشاهير الرقميين، تهدف إلى ضمان أن تكون الشهرة الرقمية متماشية مع قيم المجتمع وأخلاقه. القرار يشدد على احترام الضوابط المجتمعية في المحتوى الإعلاني والفيديوهات، ليوازن بين حرية الإبداع ومسؤولية التأثير.
بهذا، لا يُقيد القرار الشهرة بقدر ما يُذكّر بأن المشاهدين هم مجتمع حي له قيمه، وأن أي محتوى يُقدَّم على المنصات الرقمية يجب أن يحترم هذه القيم، ليظل التأثير الرقمي إيجابيًا ومؤثرًا بدلًا من أن يتحول إلى تهديد للوعي المجتمعي. وهو رسالة تربوية أيضًا: الدولة تمسك بخيوط التأثير التي قد تُهدد القيم الاجتماعية، وتعلن أن الشهرة الرقمية لا تعفي من الالتزام بعادات وتقاليد المجتمع وقيمه النبيلة.
ما بين الترفيه والإدمان، وبين الحرية والتوجيه الخفي، تبرز الحاجة الملحّة إلى ما يمكن أن نسميه «الوعي الرقمي». جيل التيك توك لا يحتاج إلى التوبيخ، بل إلى أدوات نقدية تحميه من الانجراف. هنا يأتي دور الأسرة، التعليم، والإعلام في تحويل هذه المنصة من سجن خوارزمي إلى فضاء للإبداع الحر.
كونوا بخير.