خالد بن عبدالرحمن الذييب
لا يقتصر دور المدينة باعتبارها مكانا للعيش أو التنقل فقط، فالمدينة يمكن اعتبارها مكاناً صانعاً للإبداع ولحالة ثقافية تساعد في نهضة المجتمع. فالمخطط إن فهم دوره على أنه حالة لزيادة اقتصاد المدينة، وجذب الزوار فقط، فهو في الحقيقة لم يفهم دوره الحقيقي.
هناك حراك من نوع آخر يقوم به المخطط في إثراء الحركة الثقافية والإبداعية للمجتمع، بل وحتى الفلسفية.
يشكل المخطط في هذا الحراك حجر الزاوية أو ربما هو الخلفية التي لا تكاد تُرى ولا يشعر بها الإنسان العادي ولكنها ولا شك عنصر هام لإبراز الصورة، فاللوحة مهما كانت جميلة قد لا تبدو جميلة بذاتها ولكن تبدو جميلة من خلال خلفيتها ومحيطها وروحها الداخلية، وكذلك الحراك الثقافي للمدينة لا يكون له دور لولا دور المخطط في ذلك.
هناك أربعة عناصر هامة تمثل جانباً مهماً في تحريك المجتمع ثقافياً مفاتيحها لدى المخطط العمراني، وهي المقاهي وممرات المشاة، والساحات، والنقل العام. هذه العناصر الأربعة تشترك بكونها أماكن تجمع للناس، إما جلوساً مثل المقاهي، أو متحركين مثل ممرات المشاة، أو تجمع بين الحركة والجلوس مثل الساحات، أو حركة وجلوس ووقوف مثل النقل العام.
هذا الاحتكاك المباشر وغير المباشر بين الناس يمثل كنزاً للمبدعين بكافة الأشكال، نظرات الناس بعضهم لبعض، وهمساتهم، وأصوات نقاشهم المنخفضة أو المرتفعة، اصطدامهم، اعتذارهم، تشنجهم، صمتهم، كلها حالات إنسانية يخلق منها المبدع قصصاً وإنتاجاً إبداعياً خالداً. المخطط في هذه الحالة مثل لاعب الشطرنج الذي يحرك قطع اللعبة كيف يشاء، وقد يفشل في تحركاته ولكن في النهاية هو من يحركها.
المدينة التي تُصمم للناس من ناحية أخرى يجب أن تساهم في صناعة حالة إبداعية للمبدعين من خلال خلق أماكن التواصل البشري يقابله أماكن عزلة ملائمة للهدوء والتأمل. الأماكن يتحرك فيها الناس بمختلف مشاربهم، والأماكن الأخرى يتأمل فيها المبدعين منعزلين احتكاكات البشر، المخطط الذي يصنع حالات البهجة للناس، ويساهم في رفع الحالة الاقتصادية هو بذاته من يصنع لحظات الهدوء والتأمل لنستمع لأصوات أفكارنا الداخلية، فكثير من الإبداعات العظيمة، نتجت من هذه المساحات، فجلال وشمس التقيا في ساحة، «كانط» كان يتأمل أثناء مشيه في ممرات المشاة، وهناك أحداث ومنتجات وفلسفات ابداعية ظهرت ودُفنت، وأتى بدلاً عنها أفكار جديدة في أماكن التجمعات، ساحات، ممرات، مقاهٍ، نقل عام، كلها أماكن صنعها المخطط؛ فالعزلة وقود الإبداع، ومن الناس تبدأ شرارته وإليهم تنتهي.
أخيراً..
المخطط يصنع اللقاء والمبدع يفهم اللقاء.
ما بعد أخيراً..
للحديث بقية!