يمر الاقتصاد حول العالم بمرحلة حرجة نتيجة للتضخم الاقتصادي المتصاعد والذي يثير القلق حول مساوئ وانعكاسات سيطرة هذه الظاهرة غير الحميدة على اقتصاد الدول الغنية والفقيرة على حد السواء. ومن أشكال هذه الانعكاسات الملموسة حالياً في شتى الأسواق، هو تراجع الطلب على بعض السلع والخدمات بسبب شح في السيولة مما يحد من استمرارية تدفق الأموال في المشاريع والمجالات الجديدة. رغم أن شح السيولة هذا نتج عن ارتفاع معدل سعر الفائدة الذي يهدف إلى الحد من تصاعد التضخم لكنه لم يحقق مراده في هذا الشأن لغاية الآن وفقاً لمؤشرات الاقتصاد الكلي، وكذلك فقدان النقود لقيمتها الأساسية مع مرور الزمن وحالات تعويم العملة بشكليه المطلق والمدار.
عند قراءة المشهد الاقتصادي بشكل أوسع نجد تباطؤاً في معدلات النمو بعد اتباع الكثير من الاقتصادات لسياسة نقدية ومالية مخصصة لمكافحة التضخم عبر الضبط المالي والحد من الديون وغيرها من الأساليب الموصى بها من المؤسسات المالية الدولية. لكن في الوقت ذاته بينما الدول منهمكة في تنفيذ هذه السياسات المالية لتخطي الأزمة الاقتصادية، هناك حرب تجارية شرسة بين كبرى الاقتصادات العالمية تُستخدم بها أداة مضادة لفكرة تحرير التجارة الدولية من القيود وحماية حرية الأسواق كونهما مبدأين أساسين يقوم عليهما الاقتصاد الدولي.
وتمثَّل ذلك بما قامت به أمريكا من رفع الرسوم الجمركية والضرائب على السلع المستوردة من الخارج في تصرّف يقيّد حركة التجارة العالمية ويفتح الباب لإضافة التكلفة على السلع المنتجة في الدول المتأثرة من هذه الرسوم والضرائب. مما يعرقل العمل المشترك وتوحيد الجهود في المجتمع الدولي لمواجهة أزمة التضخم وإعطاء الأفضلية لحساب المصلحة الفردية للمتنافسين على الساحة الدولية، فمن المتوقّع أن تفاقم أزمة التضخم سيولد أزمات أخرى مثل زيادة البطالة ورفع معدلات الفقر وزيادة الهجرة غير الشرعية وغيرها من المآسي التي لا تحتملها المجتمعات حول العالم.
في نفس السياق أين دور المؤسسات المالية الفاعلة في المجتمع الدولي مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، من عدم التزام أحد الدول الأعضاء بمبادئ تحرير التجارة الدولية. فواشنطن عندما أبدت نيتها عن تبنيها لمشروع رفع التعرفة الجمركية على معظم دول العالم ضربت عرض الحائط بكل الأعراف والاتفاقيات الدولية، باعتبارها أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم، إذ تبلغ حصتها ما يقارب 26 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. فدولة بهذا الحجم الاقتصادي المصحوب بنفوذ سياسي متقدِّم في النظام الدولي ليس من السهل أن تنصاع لقرارات وتتبع سياسات صادرة عن المؤسسات المالية الدولية.
ولا يتوقف على هذا وحسب، بل إن الاجتماعات الدورية للبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تعد ذات أهمية بالغة وتتابع عن كثب في مختلف أرجاء المعمورة، نظراً لأن مخرجاتها تؤثِّر بشكل مباشر وسريع على الأسواق العالمية. والدليل على ذلك أن عدداً لا بأس به من البنوك المركزية تتخذ نفس خطوات الفيدرالي الأمريكي بشأن رفع أو خفض أو تثبيت سعر الفائدة.
بالمقابل لا نستطيع التغافل هنا عن القدرة الهائلة للاقتصاد الصيني باعتباره يحتل أعلى معدلات نمو متتالية في الناتج المحلي الإجمالي رغم تراجع ذلك النمو عالمياً. فإذا استمر اقتصادها على هذا النهج لسنوات أخرى فليس من المستبعد بأن تتغير الخريطة الاقتصادية للعالم وتتصدر بكين المشهد الاقتصادي العالمي. ومما يساعدها في تحقيق هذه الغاية أنه على عكس ما يحدث في أغلب الاقتصادات من مواجهة مصاعب بسبب تفشي أزمة التضخم والتي تكون في بعض الأحيان مصحوبة بحالة الركود في الأسواق‘ إلا أن الاقتصاد الصيني شهد انكماشاً طفيفاً أدى إلى الحفاظ على معدلات الأسعار، بل وانخفاضها في بعض القطاعات التجارية نتيجة لتراجع الإنفاق الاستهلاكي في أسواقها المحلية.
من جانب آخر عند مراجعة المقدرات المالية والتجارية لهاتين القوتين الاقتصاديتين الصين وأمريكا وتعارض مصالحهما الجيوسياسية في البيئة الدولية، نجد أنه من الصعب على المنظمات المالية الدولية إقناعهما بتبني سياسات مالية دقيقة لمعالجة المستجدات الاقتصادية العالمية، لأنه هنا تتعارض المصالح ومن المستحيل تناغمها بشكل كامل وفقاً لمبدأ الربح والخسارة على الساحة الدولية، ما يؤدي بشكل أو بآخر إلى امتناع هذه المؤسسات المالية عن الدخول في التعقيدات السياسية لتفادي التصادم مع القوى الكبرى في المجتمع الدولي استناداً إلى مبدأ السيادة الوطنية، وبدلاً عن ذلك يرتكز عملها بشكل أكبر على تقديم النصائح والإرشادات للدول الأعضاء في المسائل الاقتصادية المختلفة، وتكون الإلزامية باتباعها وتطبيقها أكثر صرامة في حالات الإقراض للدول المتعثِّرة اقتصادياً.
** **
- عبد العزيز بن عليان العنيزان