فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
مكة المكرمة أول بيت وضع للناس وقبلة المسلمين، ورسالة أبينا إبراهيم - عليه السلام- للعالمين.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران آية: 96 -97.
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. كان حلماً عشته خيالا، ثم قررت أن أجسده واقعاً. في إحدى الليالي رأيت فيما يرى النائم أنني أقف فوق جبال شاهقة العلو غريبة التكوين، وكأني أكاد أنزلق من أعلاها، وصديق ممسك بي وأنا متمسك بكاميرتي. وبينما أنا أنزلق وألتقط الصور لاح لي من بعيد بين الجبال بيت الله الحرام والكعبة المشرفة تشرق على هضبة، يحيط بها المطاف برخامه الأبيض اللامع تعانقه الجبال السوداء. كنت أقترب شيئاً فشيئاً كأني أتحرك زووما بعدسة كاميرتي باتجاه الكعبة المشرفة من أعلى الجبال، وأقترب منها حتى بلغت بابها، ووجدت بعض الأصدقاء أمام الباب مرحبين بي، كنت منهكاً ومرهقاً وأود النوم، فأشاروا علي أن أستريح بجوار الباب تحت الكعبة المشرفة، وكان هناك بعض النيام جنوبه. والغريب أنه لم يكن أحد يطوف بالكعبة المشرفة، والأغرب أنه يبدو أن الحركة كانت مع عقارب الساعة، وقد وجدت نفسي قائماً أصلي متقبلاً الباب بجوار أحد الأصدقاء، وهناك صديق آخر يسجد بجوارنا.
أفقت من ذلك الحلم السريالي داعياً: اللهم أعطني خير هذا المنام، وتولدت في مخيلتي ثلاث لوحات تمثل: الحقيقة والخيال والحلم.
لوحة الحقيقة: عانقت بها عدستي غروب مكة المكرمة، تلك الصورة التي تشرفت بأن تكون جزءاً من حدث تاريخي، إذ تقدمت إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله رحمة واسعة- مقترحاً إهداء تلك الصورة بإطار خاص وتحمل توقيعه للملوك والرؤساء المشاركين في المؤتمر الإسلامي الاستثنائي الثالث عام 1426هـ (2005م).
استحسن الفكرة وأمر -يرحمه المولى - بتوزيعها على رؤساء الوفود، وكان ذلك أعظم ما نلته من تكريم وشرف.
لوحة الخيال: هي إبداع الفنان الصديق ضياء عزيز ضياء، وهي إحدى لوحات (مساجد تشد إليها الرحال) التي أوحت بذلك المشروع الفني الذي خلد ذكرى احتفائنا بمكة المكرمة كأول عاصمة للثقافة الإسلامية عام 1425هـ/ 2005م تحت رعاية الإيسيسكو (Isesco) المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. وقد زينت تلك اللوحة جدار مكتبي في مبنى رئاسة الحرس الوطني بجدة بجوار رفيقتيها لوحتي المدينة المنورة والقدس الشريف.
لوحة الحلم: كانت رسماً تخطيطيا (Sketch) بإبداع للفنان العراقي القدير اوميد عباس استوحاها من الرؤيا التي كانت شرارة هذا المقال.
لقد كانت مكة المكرمة دائماً في قلبي وروحي ووجداني كمسلم وعربي وسعودي على مر السنين عشتها صغيراً قريباً من عائلتي القطانية المكاوية التي أرضعتني ونشأت بين أفرادها وذكريات بيتها الذي كنا نسكنه في شارع ملاصق للحرم الشريف، وبنيت صداقات وعلاقات العمر مع زملاء الدراسة المكاويين التي لا تنسى. بلغت ذروة ارتباطي بها حين خدمت وطني وإنسانه متحملاً المسؤولية التي شرفتني بها قيادتنا الرشيدة في رئاسة الحرس الوطني بالقطاع الغربي لأكثر من اثنتي عشرة سنة، سنوات شكلت نضج تجربتي في خدمة الحرمين الشريفين.
مكة المكرمة فتحت لي أبواب المعرفة والعلاقات؛ عرفتني على ملوك ورؤساء وعلماء، وقربتني من زملاء تعاملات وعملت وتعلمت منهم ومعهم بتوجيه من قيادتنا الرشيدة.
خبرة رسختها خدمتي ومسؤوليتي في الحرس الوطني التي علمتني تجارب كونتها مهام الحرس الوطني بقيمة التضحية العسكرية والتزاماتها، وأهمية التعليم في بناء الإنسان، ودور الصحة في حياة الفرد، والأهم من ذلك كله: قيمة العلاقات الإنسانية مع شرائح المجتمع المختلفة من الكبير إلى الصغير ومن الغني إلى الفقير وخدمة من يحتاج العون بتوجيهات وبدعم من قيادتنا الحكيمة. ولا أنسى دور الحرس الوطني ومهامه في خدمة ضيوف الرحمن التي أتاحت لي التعرف واستقبال الكثير من العلماء والمفكرين في هذه المناسبة والمناسبات الأخرى.
كما أن مكة المكرمة ومكانتها كانت مصدر إلهام وتوفيق من المولى عز وجل الذي أعاننا وأرشدنا مجموعة من الإخوان تحت مظلة مجموعة (الأغر) للفكر الاستراتيجي ببناء «استراتيجية المملكة العربية السعودية في التحول إلى مجتمع معرفي» في عام 2008م على مقاصد الشريعة، وأن نتوج حلمنا باختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2005م بمشروع (الشميسي). إلى جانب المشروع الفني الحي المتجدد (مساجد تشد إليها الرحال) الذي يخلد ذلك الحدث الكبير. كما تشرفت المجموعة بتقديم دراسة استراتيجية تطوير منطقة مكة المكرمة عام 29/1430هـ.
وها أنا اليوم أقدم للقارئ الكريم خلاصة ما سجلته عدستي على مدى السنين، من خلال تسع وثلاثين زاوية التقطتها عيناي، تحكي شغفي وحبي لبكتنا الحبيبة.
ما أجمل أن يمن الله على الإنسان بأن يسهم - ولو بالقليل - في خدمة وطنه وإنسانه ومقدساته، وأن ما حلمت به ووفقت إليه من عمل، أدعو الرب أن يتقبله في ميزان الحسنات، وأن يجعله سبباً لمحو السيئات إنه سميع مجيب الدعوات.