في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتتلاشى فيه قيمة اللقاء، كانت زيارتي للأديب عبدالله الصيخان أشبه بالعودة إلى واحةٍ من الأدب الرفيع. لم تكن مجرد زيارة لشكره على إسهاماته في مجلة «اليمامة»، بل كانت رحلة شخصية، توّجت بإهدائه ديوانه الأحدث «زيارة»، الذي حملني بدوره في رحلة شعرية أخرى. هذا المقال قراءة تأملية تجمع بين واقعية اللقاء وجمالية الشعر، لتكشف عن عمق شاعرية الصيخان ودفء كلماته في ديوانه الذي يحمل عنوان «زيارة».
قمت بزيارة الأستاذ عبدالله الصيخان في مكتبه بمجلة «اليمامة» التابعة لمؤسسة اليمامة الصحفية في الرياض. كانت الزيارة شخصية، تهدف للتعارف والتعبير عن امتناني وشكري له على تطوير المجلة وإصدار نسختها الإلكترونية، وكذلك تقديري لنشره مقالاتي فيها.
وقد استقبلني مشكورًا ومعه الأستاذ عبدالعزيز الخزام أفضل استقبال. وفي ختام الزيارة، أهداني إصداره الأحدث، ديوان «زيارة»، الذي اعتبرته تتويجًا لكرم الاستقبال في أول لقاء شخصي لي مع هذا الأديب القدير وزملائه في المجلة.
ديوان «زيارة» ليس الإصدار الأول للشاعر والأديب عبدالله الصيخان، فقد سبقته عدة دواوين أخرى، بالإضافة إلى مقالاته الصحفية في «اليمامة» وغيرها. ولن يكون هذا الإصدار الأخير بإذن الله، ولا هذه الزيارة الأخيرة.
أجلت قراءة الديوان رغم روعة تصميمه وشكله الجذاب، لأستمتع به على ارتفاع 35 ألف قدم، عندما كانت الطائرة تحلق في رحلة العودة إلى جدة بعد زيارة للرياض استمرت يومين.
قبل البدء في قراءة صفحاته، يرحب بك الديوان، وهو إصدار صغير الحجم يقع في 50 صفحة، ضمن سلسلة «خطوط وظلال» للنشر والتوزيع، الصادرة في عمّان عام 2022. يلفت نظرك غلافه الأنيق، الذي يحمل رسمًا تشكيليًا آسرًا يوحي بالحنين إلى وهج الماضي؛ حيث تظهر بؤرة ضوئية لطفل يلعب بطوق حديدي في أحد الأزقة. هذه الصورة ترمز إلى بدايات الطفولة البريئة في أزقة المملكة العربية السعودية بشكل عام، وربما تشير إلى شمال المملكة حيث وُلد الشاعر ونشأ، أو أي مدينة أخرى كالرياض، أو حتى كل المدن السعودية والعربية. إنه توحّد موفق بين الشاعر والناشر والمصمم، وبين القارئ السعودي والعربي في كل مكان وزمان.
يأخذك الغلاف المعبر إلى ذكريات الطفولة ومراحل التنشئة، في «زيارة»، أو لعلها زيارات متعددة عبر قصائد ذات أبعاد إنسانية مختلفة ومسارات متنوعة ضمن دائرة الزمان والمكان وحياة الإنسان.
ما يميز الديوان هو عدم وجود مقدمة أو تمهيد، حيث تصافحك أولى القصائد بعنوان «زيارة»، وتودعك أيضًا القصيدة نفسها في الختام، في وداعية مفتوحة على زيارات قادمة وإبداعات شعرية أخرى في المستقبل.
على الغلاف الخلفي للديوان، تتلاشى صورة الغلاف قليلاً في الركن الأيسر السفلي، ليصافحك الصيخان بقصيدة رائعة عن الشعراء. عادةً ما يحمل الغلاف الأخير نبذة مختصرة عن الشاعر، لكن الصيخان فضّل أن يتحدث عن الشعراء عمومًا بقوله: «هم الشعراء أماطوا لثام القصيدة عن وجهها... فتبدت مها يتقيها الرجال». وكأن الصيخان تعمَّد أن يتحدث عن «قبيلة» الشعراء، وهو أحد أبرز فرسانها في غير «زهرة العمر» التي بدأت تذبل، معبرًا عنهم بقوله: «لم يكن في أيديهم حصًى ليزدلفوا أو منًى ليقيموا الخيام» في روحانية شديدة الجمال والإحساس تبرر لهم أنهم «أناخوا ركائبهم في الخيال».
تسللت بهدوء وشغف إلى الصفحات الداخلية للديوان، حيث تستقبلك أولى القصائد: «زيارة». يضم الديوان 13 قصيدة، بالإضافة إلى قصيدة الغلاف الخارجي، وتكرار قصيدة «زيارة» في البداية والنهاية، في تأكيد واضح لأهمية القصيدة وارتباطها بالعنوان.
يشتمل الديوان على ثلاث قصائد رثاء خالصة الإبداع، تنضح بالوفاء:
* «القرين»: مرثية للشاعر الراحل محمد الثبيتي، تتخللها أبيات من قصيدة الصيخان المنشورة على الغلاف الخلفي، وكذلك عنوان قصيدة الثبيتي «وضاح» ومقطع من قصيدته «تغريبة القوافل والمطر»، بالإضافة إلى اسم ابنته «شروق». إنها مرثية للشاعر والشعر على حد سواء.
* «الزائر الأخير»: مرثية لصديقه ورفيقه عبدالعزيز مشري، وفيها توصيف رائع لحالته في الصحة والمرض، ولمحات من أيامه الأخيرة قبل أن يوارى الثرى.
* «زمان الصمت»: مرثية للفنان الكبير طلال مداح، تتخللها بعض كلمات أغانيه مثل «وترحل... صرختي تذبل بوادي»، و»أحلى الليالي»، ورائعته «وطني الحبيب».
شاعرية الصيخان: أسلوبٌ وأبعاد يتمتع الشاعر والأديب عبدالله الصيخان بأسلوب إبداعي فريد يجمع بين عذوبة الحسّ وجزالة اللفظ. كلماته ليست مجرد حروف، بل هي نبعٌ صافٍ ينهل من روافد متعددة:
* العمق الإسلامي: يتجلى في بعض تعابيره التي تستوحي من القرآن والسيرة، ما يضفي على قصائده بعدًا روحيًا.
* الأصالة البدوية: تظهر في استخدام ألفاظ تراثية أصيلة تذكر بالحياة البدوية، وهو ما يربط شعره بجذوره الأصيلة.
* العربية الفصحى: يبرع في توظيف اللغة الفصحى بمهارة فائقة، مما يمنح شعره قوة وهيبة.
* الحضارة المعاصرة: يتفاعل مع قضايا العصر ويقدم رؤى حديثة بأسلوب شاعري، ليثبت أن الشعر قادر على مواكبة كل زمان.
هذا المزيج الفريد يمنح قصائد الصيخان طابعًا خاصًا. لم يكتفِ بالتغني بالجمال والليل والنجوم، بل توسعت آفاقه لتشمل قضايا وطنية وقومية. في قصيدتيه «القلطة» و«نمر على الوشم»، يعكس انتماءه العميق لوطنه، مجسداً الروح السعودية الأصيلة. وفي «قانا»، يشارك الوجدان العربي النازف، معبراً عن التزامه بقضايا أمته.
أما استخدامه لكلمة «زيارة» دون «أل» التعريف، فهو لمسة فنية بارعة. بهذه البساطة، يجعل «الزيارة» حالةً مفتوحة لا يحدها مكان أو زمان. إنها زيارة في الذكرى، في الحلم، وفي قصيدة تتجدد مع كل قراءة، لتبقى ممتدة عبر الإنسان في الزمان والمكان. هكذا أبدع الصيخان، ليس فقط كشاعر، بل كفنان يتقن هندسة الكلمات والمشاعر.
وهكذا، يظل ديوان «زيارة» للشاعر عبدالله الصيخان أكثر من مجرد مجموعة قصائد؛ فهو رحلة أدبية إنسانية تأخذ القارئ في دروب الوفاء والجمال، من حنين الماضي إلى عذوبة الحاضر. في صفحاته القليلة، تمكن الصيخان من رسم لوحة شعرية متكاملة، تؤكد أن الشعر الحقيقي لا يحتاج إلى حشد الكلمات، بل إلى صدق المشاعر وعمق التجربة. إنها «زيارة» لا تنتهي، بل تتجدد مع كل قراءة، وتترك في القلب أثراً لا يمحى.
** **
د. عبدالله علي بانخر - قسم الاتصالات التسويقية - كلية الاتصال والإعلام - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة - ديوان الصيخان