فائز بن سلمان الحمدي
قف معي قليلًا على بوابة الغد، وانظر: أجيالا قادمة تفتح دفاتر الماضي، وتستعرض آثارنا كما نستعرض نحن أخبار من تقدّمنا. ستسأل في صمت رهيب: ماذا فعل أولئك الذين عاشوا زمن الانفجار المعرفي؟ هل كانوا أمناء على نعمة الفيض، أم غرقوا في تيّاره بلا بوصلة؟ هل أضافوا للحضارة لبنةً تُشاد عليها صروح جديدة، أم كانوا كغثاء السيل، كثرةٌ بلا أثر؟
إن التاريخ يضع أمامنا أمثلة ناطقة. فها هو جيل بيت الحكمة في بغداد، يوم أشرقت أنوار الترجمة والتدوين، لم يقف موقف المتفرج أمام كنوز اليونان والرومان، بل أخذها، ونقّاها، وصاغها بلغة الوحي، ثم أضاف إليها إبداعًا جديدًا جعل الغرب يومًا ما يتلمّس خطاه في دهشة وانبهار، وها هم أهل الأندلس، يوم ازدحمت قرطبة بمكتباتها، وغصّت غرناطة بمجالس علمائها، فكانوا حلقة وصلٍ بين الشرق والغرب، حتى قيل: «إنك إن أردت أن ترى الدنيا مجتمعة، فانظر إلى الأندلس».
وفي المقابل، كم من أجيال ضيّعت الأمانة، فصارت وصمة في جبين التاريخ!
ألم يكن سقوط بغداد على يد التتار ثمرةً مُرّة لترفٍ غارق، وعلمٍ محبوس في صدور لا تعمل، وقلوب لا تستيقظ؟ ألم يكن ضياع الأندلس نتيجة غفلة عن النعمة، وتنازعٍ حول الصغائر، حتى استيقظوا على أبوابٍ تُغلق، ومكتبات تُحرق، ومآذن تصمت؟ إن جيلنا اليوم يقف على أعتاب امتحان لا يقل خطورةً عن امتحان أولئك. غير أن الفرق أنّ ما كان يقطعه أسلافنا من أميال وأشهر لنيل كتاب، قد صار بين أيدينا في ثوانٍ معدودات. كانوا يشدّون الرحال ليظفروا بمخطوطة يتيمة، ونحن نُعطى مكتبات العالم كله ونحن جلوس في بيوتنا. فما أشدّ الحجة علينا، وما أضيق العذر!
لقد أصبحت المسافات وهمًا، والحواجز أطلالًا، والحدود خطوطًا على الورق. نقرأ من غير سفر، ونتعلّم من غير معلم مباشر، ونخوض بحار الفكر بلا سفن ولا شراع. لكن السؤال المهيب: ماذا نصنع بكل هذا؟ أَنزيد العالم تشتّتًا وضجيجًا؟ أم نُضيف له عقلًا راشدًا وفكرًا رشيدًا يُضيء للإنسانية طريقها؟
إن محركات البحث مهما بلغت من الذكاء، لا تنفع الغافل، ولا تفتح قلبًا لا يفقه. إنما هي مرآة للعقل، فإن كان ناضجًا ازداد نضجًا، وإن كان هائمًا ضاع في متاهاته. فالمسألة ليست في وفرة المعلومات، بل في نوعية الوعي الذي يُحسن التمييز. ولقد قيل قديمًا: «العلم كثير، فخذوا من كل شيءٍ أحسنه».
أجل، سيُقال عنا يومًا: عاشوا زمن الفيض الرقمي، فماذا تركوا؟ إما أن تكون شهادتهم لنا: «لقد كانوا جيلًا واعيًا، حوّل كثرة المعلومات إلى ثقافة راسخة، وأخرج من الضوضاء حكمةً، ومن الحشود فرسان فكر. «وإما أن تكون ضدنا: «لقد غرقوا في التوافه، وانشغلوا بالسطحيّات، وكانوا كمن جلس على كنوز ثم مات جوعًا».
ألسنا نخجل حين نتذكّر أن أبا العلاء المعرّي قضى عمره يبحث بين الدواوين عن بيتٍ من الشعر، ونحن نغرق في آلاف الأبيات بين لحظة وأخرى، ثم لا نخرج ببيتٍ واحد نحفظه أو نُنشده؟ ألسنا نُدرك الفارق حين نتأمل كيف كتب ابن خلدون «المقدمة» في عزلة قاسية بلا مكتبة جامعة، بينما نحن بين أيدينا أرشيف البشرية كلّه، ولا ننتج إلا سطورًا متفرقة لا تحمل أثرًا؟. إن الغد ليس بعيدًا، بل يطلّ علينا من نافذة الحاضر. سيقرأوننا كما نقرأ نحن من سبق، فإن وجدونا أوفياء للعلم، كُتبنا في سجل الخلود، وإن وجدونا غافلين، طُمست أسماؤنا كما طُمست أسماء من سبقونا بالتفريط.
فيا أبناء هذا الزمن، إن اللحظة التي نحياها ليست زمنًا عابرًا، بل امتحانًا عسيرًا، يُسطّر في سجلات الدهر حكمه: إمّا شهادة تُرفع بها الرؤوس، أو وثيقة إدانة يندى لها الجبين. والفيصل بينهما وعيٌ حيّ، وإرادة نافذة، وهمة لا ترضى أن تكون صدى، بل تُريد أن تكون صوتًا خالدًا في سجلّ الإنسانية.