د. عبدالحليم موسى
صنعت الجامعات السعودية من بيئتها الأكاديمية واحة للابتكار البحثي؛ مرتدية ثوب الذكاء الاصطناعي؛ في زمن متسارع ومتغاير؛ حيث لم تعد هذه المؤسسات التعليمية مجرد قاعات تدريس مغلقة، بل استطاعت أن تنمي فكرها المتمثل في تبني مفهوم الإبداع وإنتاج القيمة المعرفية للابتكار وتوظيف مخرجات البحث العلمي في رفد احتياجات سوق العمل، بما يسهم في رفع منسوب التنمية المستدامة بما يتماشى مع رؤية المملكة 2030.
وتشرق ضمن المنظومة الأكاديمية شمس جامعة الملك فيصل؛ التي أرست دعائم التحول الجوهري؛ نحو تزاوج المعرفة بالاقتصاد، والفكر بالممارسة، والمختبر بريادة الأعمال؛ إضافة لصناعة العلاقة الحميمة مع الذكاء الاصطناعي؛ من أجل تحويل الأفكار إلى منتجات وخدمات ذات أثر اقتصادي؛ ومن هنا جاء اهتمام هيئة تنمية البحوث العلمية والتطوير والابتكار بدفع الجامعات إلى إعادة تعريف نفسها كمناطق ابتكار، ليصبح الابتكار جزءاً من هوية الجامعة لا نشاطاً ثانوياً.
فتجربة جامعة الملك فيصل في الحصول على التصنيف الدولي من المنظمة العالمية لمناطق الابتكار (IASP) تمثل حالة ملهمة تؤكد أن الأمر ليس حلما نظريا، بل واقعا ممكنا، متى ما توافرت الرؤية والإرادة. وبالرغم من ذلك فإن الفجوة ما زالت قائمة بين هذه التجربة وبعض الجامعات في العالم من حولنا، والتي تكتفي بمسميات جزئية مثل؛ حاضنة أعمال أو منتزه علمي، بينما التحدي الحقيقي يكمن في أن تتحول الجامعة كلها إلى منظومة ابتكارية شاملة.
حينما يتم وصف جامعة ما بـمنطقة ابتكار؛ فهذا لا يعني تزيين الاسم، بل إعادة تعريف معنى الجامعة؛ لتنتقل من مجرد مكان لتخريج الطلاب لسوق العمل، إلى منصة لصياغة المستقبل، وإنتاج المعرفة وتحوّلها إلى طاقة اقتصادية واجتماعية.
إن الابتكار ليس جهازا متطورا ولا مبنى حديثا، بل ثقافة شاملة تتخلل كل تفاصيل العمل الجامعي؛ من طرق التدريس، إلى آليات البحث، وإلى تكوين علاقة مع المجتمع الذي يحتضنها.
حينما نسقط هذه الرؤية على قول خبير التعليم العالمي كلايتونكريستنسن (Harvard Business School)، والذي طوّر نظرية الابتكار الجذري وقدمها في كتابه الشهير معضلة المبتكر (The Innovator»s Dilemma)؛ وذهب هذا العالم الى أن النهايات ستتطابق مع منظوره المستقبلي للجامعات؛ حينما قال «إذا استمرت الجامعات في أداء دورها التقليدي دون ابتكار، فإنها لن تختفي فجأة، لكنها ستفقد معناها».. هذا القول يختصر جوهر قضيتنا؛ فالجامعة التي لا تعيد تعريف نفسها، ستكون خارج الزمن.
مع صعود الذكاء الاصطناعي، يزداد وضوح الرؤية، وهي أن الجامعات لا يمكنها تحقيق رؤيتها كمناطق ابتكار من دون استثمار عميق في هذه التقنية؛ فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة، لبنية تحتية معرفية تعيد صياغة أدوار الجامعة. ففي التعليم، يقدم الذكاء الاصطناعي أنظمة تعلم شخصي تكيفية تجعل كل طالب يعيش تجربة فريدة؛ وفي البحث العلمي، يفتح آفاقا هائلة لتحليل البيانات الضخمة وتوليد الفرضيات الجديدة.
وفي الابتكار وريادة الأعمال، يتيح محاكاة النماذج الأولية وتوقع نجاح المشاريع بدقة عالية، وفي إدارة الجامعات، يمنح أدوات تنبؤية لتخصيص الموارد ورفع كفاءة التشغيل. فالجامعات السعودية، وهي تخطو نحو مفهوم مناطق الابتكار، تجد نفسها أمام فرصة تاريخية لأن تتحول إلى منارات ابتكار ذكية، تسهم ليس فقط في تخريج الكفاءات، بل في إنتاج المعرفة وصياغة المستقبل الاقتصادي والثقافي للمملكة.
في خاتمة مطافنا العلمي والفكري، فإن الجامعة التي تجرؤ على أن تعيد تعريف نفسها ستصبح مدرسة للفكر والابتكار في آن واحد، بينما من يتردد أو يتباطأ سيجد نفسه في الهامش، وبين هذين الطريقين، أكتب اليوم قصة الجامعات السعودية في عصر الذكاء الاصطناعي.