أحمد بن محمد الغامدي
في لحظة لم تكن في الحسبان، توقّف الزمن وتجمّدت الأنفاس، حين وصلني الخبر الذي لم أكن أتمناه يومًا؛ خبرٌ ثقيل كالجبال، زلزل قلبي وأفقدني توازني: رحيل أخي الأكبر وعميد أسرتنا، الشيخ سعد بن محمد آل جراد الغامدي – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
كانت الصدمة كالصاعقة، إذ غاب عمود البيت وركيزته، وانطفأ السند الذي نستند إليه في الشدائد، وغاب الأمان والملاذ الذي اعتدنا أن نلجأ إليه. كيف يمكن للحياة أن تستمر وقد رحل من ملأها بالحب والدفء؟ كيف يمكن للبيت أن يظل حيًا وقد فقد روحه؟
لم يكن كغيره من الرجال، فقد كان قلبه محور حياته ومصدر قلقنا الدائم. أنهكته رحلة طويلة من المراجعات الطبية، تنقل خلالها بين المستشفى العسكري بجدة ومراكز القلب المتخصصة في القاهرة. ومع ذلك، ظل قلبه العامر بالحب مخلصًا للجميع، وضحى بالكثير من أجل أسرته وأهله وأحبته. وحين أنهكه التعب، قرر أن يستريح من أوجاعه، وآثر الرحيل إلى جوار ربه، تاركًا فراغًا كبيرًا لا يملؤه أحد، وذكرى لا تمحوها الأيام.
كان مشهد العزاء مهيبًا، يعكس محبة الناس ووفاءهم له؛ حيث احتشد المودعون من كل مكان، ليؤدوا صلاة الجنازة عليه في جامع الأمير محمد بن سعود ببلجرشي، ثم ليتوافدوا إلى بيت الجماعة بالقريع لتقديم واجب العزاء.
كانت الوجوه تحمل مزيجًا من الحزن العميق والامتنان لرجل لم يبخل يومًا بالخير والعطاء. كل من حضر كان يروي قصة عن طيبته ومواقفه النبيلة، وكأن كل شخص يحمل في قلبه جزءًا من حكاية سعد.
كان رجلًا استثنائيًا، محبوبًا من الجميع، يملك قلبًا نقيًا طيبًا قلّ أن تجد له نظيرًا. كان يسابق إلى مساعدة الناس في السر والعلن، لا ينتظر شكرًا ولا مقابلًا. كم من مرة تسلل إلى بيوت المحتاجين في الظلام، يقدم لهم العون خفية، لا يبتغي إلا وجه الله.
كان صريحًا صادقًا، لا يجامل في قول الحق، مما جعله محط ثقة واحترام كل من عرفه. وكان حاضرًا في كل المناسبات، يسأل عن الجميع، يتابع تفاصيل حياتهم، ويقف إلى جوارهم في السراء والضراء. لقد كان الأب، والأخ، والصديق الذي نلجأ إليه جميعًا.
لم يكن ارتباطه بالمسجد أمرًا عابرًا؛ بل كان جزءًا أصيلًا من حياته. لذلك لقبه الناس بـ “حمامة المسجد”. كان ملتزمًا بأداء الصلاة في وقتها، يصدح بالأذان، ويؤم الناس في صلاتهم. كان نورًا يملأ المسجد وسلامًا يتنزل على قلوب المصلين. وحين غاب، غاب معه ذلك النور، وافتقد المسجد صوته الذي اعتدناه.
وداعًا يا أخي الحبيب أبو محمد، نم قرير العين، فقد تركت لنا إرثًا من الحب والخير يخلّد ذكراك إلى الأبد. لقد علمتنا أن نحب بصدق، ونعطي بسخاء، ونكون رجالًا بحق. سيظل قلبك الطيب نابضًا في ذاكرتنا، وستظل ذكراك تضيء دروبنا ما حيينا.
إنك لم تمت في قلوبنا، فذكراك العطرة باقية معنا على مر الزمن. ولم تمت أيضًا لأنك خلّفت أبناءً صالحين، هم محمد وأحمد – حفظهما الله – الذين يرفعون لك الدعاء كما نرفع نحن، ويستمرون على نهجك المضيء.
كما تركت إخوة أوفياء يحملون الراية، يتقدمهم أخونا الغالي وعميد أسرتنا سعيد (أبو ريان)، الذي تحمل المسؤولية من قبلك، وما زال يتحملها حتى اليوم. وندرك أن الحمل ثقيل، لكنك يا أبا ريان لها، ونحن نعاهدك بالسمع والطاعة، كما كنا مع أخينا الراحل أبو محمد سعد – رحمه الله – ليبقى بيتنا متماسكًا كما أردتما.
لقد رحلت جسدًا يا أبا محمد، لكن روحك باقية، وأثرك خالد، وسيرتك الطيبة حاضرة في القلوب والألسن. وإننا لنسأل الله أن يرحمك رحمة واسعة، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأن يجزيك عنا وعن أهلك ومجتمعك خير الجزاء.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.