نجلاء العتيبي
«تسعة أعشار العافية في التغافل».
هكذا قال الإمامُ أحمد بن حنبل واضعًا مفتاحًا للحياة في جملة قصيرة، وكاشفًا عن سرٍّ عظيمٍ يتجاوز حدود العلاقات ليصل إلى صميم العافية.
التغافل ليس ضعفًا ولا وهنًا في النظر، بل هو فنٌّ إداريٌّ للنفس، وميزانٌ يحفظ التوازن بين ما يجب أخذه بجدٍّ وما ينبغي تركُهُ ليمُرَّ دون أن يترك ندبة في القلب.
حين نتأمَّل هذا القول ندرك أنَّ الإنسان حين يُرهق نفسه بملاحقة كل حركةٍ وسكنةٍ، وكل خطأ وهنَّةٍ، فإنه يستهلك طاقته الداخلية كما لو كان يسكب ماءً في وعاء مثقوب.
العافية ليست جسدًا صحيحًا فقط، بل هي راحة في الفكر، وسكينة في القلب، وإذا غاب التغافلُ ضاعت هذه الراحة.
قد يُظن أن التدقيق المستمر في كل صغيرة وكبيرة سبيلٌ إلى الضبط والإتقان، لكنه في الحقيقة يفتحُ بابًا للقلق والاحتراق النفسي، فكم من كيانٍ تهاوى حين غاب عنه التغافل عن الهفوات، وكم من أمرٍ تصدَّع حين غُلِّبت فيه الرغبة في إثبات الأحقية في أدقِّ التفاصيل، وليس هذا مجرد كلام وجداني، بل تُؤيِّده دراسات علمية في مجال الطب النفسي والطب الجسدي على السواء.
ففي دراسة نُشرت في مجلة طبية مُتخصِّصة عام 2019، تبيَّن أن الأشخاص الذين يتصفون بالتدقيق المفرط، والصرامة في محاسبة أنفسهم والآخرين ترتفع لديهم مُؤشِّرات التوتُّر المزمن، ويظهر عندهم نشاط مفرط في هرمونات التوتُّر مثل الكورتيزول، وهذا النشاط المستمر يرتبط بارتفاع ضغط الدم، ضعف المناعة، وزيادة احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين.
والأمر المثير أنَّ الباحثين لاحظوا أيضًا أن هذه الفئة أكثر عُرضةً للشكوى من آلام عضلية وهضمية، وكأن الجسد يُعبِّر عن ضيقه من ضغط النفس المفرط.
وعلى النقيض، فالذين تعلَّموا فنَّ التغافل ودرَّبوا أنفسهم على تمرير الأخطاء الصغيرة دون تضخيمٍ كانوا أقدَرَ على التكيف النفسي، وأقوى في مواجهة الأمراض.
هذا لا يعني إهمالًا ولا استسلامًا للخطأ، بل هي حكمة في التمييز بين ما يستحقُّ الوقوف عنده وما ينبغي تجاوزه. إنَّها مرونة عقلية، وانفتاح داخلي يُخفِّف من حدة الصراع، ويمنح الجسد فرصةً للتنفُّس بعمقٍ.
ولعلَّ المراقب لتجارب الناس يرى أن المجتمعات التي يغلب فيها التدقيق والتشدُّد في كل تفصيلٍ حتى في شؤون بسيطة لا تستحق النزاع هي مجتمعات أكثر عُرضةً للتوتر الجماعي.
بينما تغدو بيئات التسامح والتغافل أرضًا خصبة للنمو وسكينة للنفس، فإذا كان هذا على مستوى الجماعة، فكيف على مستوى الفرد الذي يحمل في داخله حمولةً من المواقف اليومية الصغيرة، من نظرة لم تُعجبه، أو كلمة لم تُصَغ كما يشتهي؟ أو أمور الحياة اليومية المؤقَّتة.
فالتغافل هنا يصبح علاجًا وقائيًّا، كما يصبح أسلوبًا لبناء حياة متوازنة.
إنَّه قرار يتخذه المرء بألَّا يرهق قلبه بما لا يُصلح شيئًا، وأن يمنح جسده راحة من ضغطٍ لا طائل منه.
فمن يتغافل يحمِ جهازه العصبي من الإنهاك، ويحمي قلبه من زيادة الخفقان، ويحمي جهازه الهضمي من الاضطراب. إنَّه يفتح لنفسه بابًا للعافية من أوسع أبوابها.
وهكذا.. حين نضع كلام الإمام أحمد في ميزان العلم الحديث، نرى بوضوح أنَّه لم يكن ملاحظة عارضة، وإنما قاعدة ذهبية.
فالتغافل ليس مجرد خُلُق رفيع يحفظ العلاقات، بل هو أيضًا وسيلة لحماية الجسد والنفس من أمراض لا يُستهان بها.
هو عين البصيرة التي تُميِّز بين ما يرفع وما يضع، بين ما يثقل وما يخفّف.
هو ممارسة روتينية تُبقي الإنسان في دائرة السلام الداخلي؛ ليعيش حياة أصفى وأعمق.
ضوء
«الكيِّس العاقل هو الفطِن المتغافل». الشافعي - رحمه الله.