صالح الشادي
لم تأتِ تحذيرات منظمة الصحة العالمية المتكررة من ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية حول العالم من فراغ، بل هي انعكاس لواقع مرصود في سلوكيات الأفراد والمجتمعات التي تبتعد تدريجياً عن الفطرة السوية والمعايير الأخلاقية والاجتماعية المتوازنة.
تشير الدراسات النفسية إلى أن جذور هذه الاضطرابات تعود بشكل أساسي إلى مرحلة التكوين الأولى للإنسان، حيث تلعب الأسرة والمنزل الدور المحوري في تشكيل الشخصية وبناء القناعات والقيم.
فالشخصية الإنسانية، بمكوناتها العاطفية والسلوكية، هي نتاج تراكمي لتأثيرات متشابكة، منها: الظروف الاجتماعية والنفسية في الطفولة، مستوى الانضباط الأخلاقي، البيئة الجغرافية (سواء في الريف أو المدينة أو الصحراء)، العادات والتقاليد، والمستوى المعيشي. هذه العوامل مجتمعة تُشكّل نمط التفكير وتحدد المسلكيات التي ترافق الفرد غالباً طوال حياته.
وتكمن المشكلة الحقيقية في أن العديد من الأفراد، عند بلوغهم، يظلون حبيسي تلك التشكيلة النفسية التي تشكلت في طفولتهم، ليتجلى ذلك من خلال سلوكيات تعكس ما يُعرف في علم النفس بعقد النقص. يحاول الفرد التعويض عن هذا النقص من خلال سلوكيات مبالغ فيها، كالحديث المفرط عن الذات، أو التفاخر بالمستوى المالي أو الاجتماعي، أو المبالغة في إظهار المقتنيات المادية (كالساعة أو السيارة أو المنزل الخ ). هذه التصرفات تكون في جوهرها غطاءً نفسياً واهياً ومُفتعلاً، هدفه إظهار صورة مثالية للذات لتعويض الإحساس الداخلي بالنقص أو عدم الكفاية.
وقد تفاقمت هذه الظاهرة في العصر الحديث بفعل ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، حيث يختلق الفرد لنفسه قدوةً مستحيلةً مستمدة من العالم الافتراضي، فيسعى لمحاكاتها عبر ادعاءات كاذبة وتمثيل لدور لا يعبر عن حقيقته. وأصبح «الظهور الزائف» إشكاليةً مجتمعيةً تُغذي حالة من الاضطراب النفسي الجماعي، تظهر أعراضها في فقدان الشعور بالاستقرار، وضعف الإيمان واليقين، وتبني هويات مُزيَّفة.
لم يعد تمييز هذه الاضطرابات حكراً على الأخصائيين، فأصبح الإنسان الواعي قادراً على رصدها في التعاملات اليومية، داخل البيوت وفي العلاقات الزوجية والأسرية وفي نطاق العمل والشارع والمناسبات. الجميع يسعى لأن يبدو «سوياً» أمام الآخرين، ولو عبر الكذب والادعاء والتمثيل، مما يخلق حلقة مفرغة من القلق والاضطراب.
مواجهة هذه الجائحة الصامتة تتطلب وعياً جماعياً بخطورة «التمثيل الاجتماعي» والعودة إلى التربية القائمة على الصدق مع الذات وتقبلها، وبناء هوية حقيقية لا تسقط في فخ المقارنات الوهمية، والتركيز على القيم الإنسانية والأخلاقية بدلاً من المظاهر المادية الزائفة.