د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
بحكم مكانة السعودية الدينية والعربية لا يمكن أن تكتفي بالاستهلاك، بل تسعى إلى الإنتاج والمشاركة في صناعة مستقبل التقنية، فأطلقت السعودية أول منصة دردشة تفاعلية عربية للتفاعل باللغة العربية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، قبل زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للسعودية في مايو 2025 عن إطلاق شركة هيوماين، موجهة للعرب والمسلمين في أنحاء العالم، لسد فجوة تاريخية من أجل تعزيز التكافؤ اللغوي، تجمع بين التقدم التقني والحفاظ على الأصالة الثقافية، لتصدر موقع ريادي عالمي لتعزيز التنافسية العالمية.
ليس مجرد أداة بل رافعة استراتيجية، تعيد تشكيل التعليم، الصحة، الأمن، الإعلام، الخدمات الحكومية، فتح آفاق جديدة للابتكار، ولا تتجه السعودية فقط نحو بناء تطبيقات، بل تتجه نحو صناعة رؤية أخلاقية وتشريعية تضمن استخدامها منطلقة من مكانتها الدينية من أجل أن تكون لاعباً مؤثراً، وهي قادرة على المشاركة في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي.
دخول السعودية إلى نادي سباق الذكاء الاصطناعي ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية، وليس هو أداة إضافية، بل بوصفه ضرورة للاقتصاد ولتطوير قدرات المواطنين، وتسريع التبني عبر جميع القطاعات، فالعالم يتجه نحو اقتصاد المعرفة، فالمستقبل لا ينتظر أحداً، بدأ يكتسب نموذج علام وتطبيق هيوماين تشات وفالكون أهمية إقليمية؛ لأنها توفر مخرجات باللغة العربية، وتعزز البحث المحلي، وبناء كفاءات وطنية وملكية فكرية، وبنية تحتية محلية في خدمة العالم، إلى جانب النماذج العالمية الكبرى، مثل تشات جي بي تي، ولكن مع اختلافات جوهرية، ولن يمتلك تشات جي بي تي مجموعة بيانات علام، الذي هو ثمرة التكوين الفريدة لشركة هيوماين، فبالإضافة إلى إجادته اللغة العربية الفصحى، يتقن النموذج التفاعل مع اللهجات المحلية مثل السعودية والمصرية والأردنية واللبنانية وغيرها، وقد خضع لاختبارات في تطبيقات حساسة، منها صوتك وهي أداة مخصصة لتفريغ محاضر الجلسات القضائية في السعودية.
أمنت شركة هيوماين شرائح من انفيديا وإيه أم دي، وتعتزم إنشاء 1.9 جيجاوات من مراكز البيانات الضخمة بحلول 2030، وشارك في بنائه أكثر من 120 متخصصاً في مجال الذكاء الاصطناعي من الجنسين طور بالكامل بأيدي كفاءات سعودية بمشاركة نخبة من الخبراء العالميين، كما كشفت عن اتفاقية بنية تحتية مهمة مع شركة غروك الناشئة في وادي السليكون المتخصصة في تقنيات الاستدلال السريع وبتكلفة منخفضة، حتى تمكنت هيوماين من نشر 19 ألف وحدة معالجة لغوية LPUs من غروك خلال ستة أيام فقط، مما أتاح لها تقديم خدمات استدلال بتكلفة تقل بنحو 60% عن أي مكان آخر عالمياً، بجانب تميز المنصة باستهلاك منخفض للطاقة، وبنية ذاكرة قائمة على سرام وتصميم مخصص يجعلها مثالية لتشغيل النماذج الكبيرة بكفاءة عالية.
هذه الشرارة ستغير موقع الشرق الأوسط في الاقتصاد الرقمي العالمي، باعتبار علام أول نموذج أساسي للذكاء الاصطناعي يتم تطويره من الصفر في السعودية ويركز على اللغة العربية ولهجاتها، تعتبر خطوة طموحة تعكس التحول الرقمي المتسارع في السعودية، ولا يمثل علام مجرد إضافة إلى عالم النماذج اللغوية الضخمة، بل هو إعلان واضح من العالم العربي على قدرته على الابتكار والتطوير في هذا المجال الحيوي، النموذج مزود بحواجز أمان ثقافية وسياسية مصممة خصيصاً للمنطقة، وتشغيل بمستوى عالمي وبمعاييره الخاصة، ولن يتاح على الإنترنت العام، وهو ما يمنحه عمقاً في المعرفة المحلية ودقة في الفهم تتفوق على النماذج العالمية.
جمعت علام تحت مظلتها خبرات تقنية من أرامكو ديجتال والمركز الوطني للذكاء الاصطناعي سدايا، وسيكون إطلاقه نقطة الانطلاق لا خط النهاية، فشركة هيوماين مستمرة في تطوير النموذج بشكل مستمر، وتتجه نحو بناء منظومة كاملة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي انطلاقاً منه، حيث تركز هيوماين على تلبية احتياجات الجهات الحكومية التي تعتمد العربية بشكل شبه كامل في أعمالها إلى جانب متطلبات القطاع الخاص في مجالات مثل السياحة والرعاية الصحية وغيرها.
نموذج علام ليس فقط مجرد مشروع لغوي، فهو الشرارة التي يمكن أن تغير موقع الشرق الأوسط في الاقتصاد الرقمي العالمي، من مستهلك لتقنيات الآخرين إلى مبتكر لمنصات ومنتجات أصلية، في حين يعد علام النموذج الأبرز لشركة هيوماين، لكن تستعد الشركة في أكتوبر 2025 لإطلاق ابتكار كبير آخر هو هيومان وان لإعادة ابتكار كاملة لنظام تشغيل المؤسسات، وهي فكرة تقوم على الاستبدال بالتنقل التقليدي بين عشرات التطبيقات المنعزلة واجهت أوامر موحدة، نصية أو صوتية، قادرة على تنفيذ مهام معقدة عبر أنظمة متعددة بسلاسة، وسيكون هناك حاسوب هيوماين للذكاء الاصطناعي، الذي جرى تصميمه بالكامل في السعودية بالشراكة مع شركة كوالكوم، ويجمع هذا الجهاز بين قدرات المعالجة المركزية CPU والمعالجة العصبية MPU مما يمنحه قوة حوسبة متكاملة تلبي احتياجات تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، سيعرض الجهاز في مبادرة الاستثمار في الرياض في أكتوبر 2025 على أن يطرح لاحقاً في الأسواق العالمية. وهو ما سيغير قواعد اللعبة في إشارة إلى التركيز على تمكين المعالجة المحلية السريعة والفعالة دون الاعتماد المفرط على مراكز البيانات البعيدة، وإعادة صياغة السردية التي تفترض اعتماد المنطقة على الابتكار الخارجي، بل تتجه السعودية نحو ترسيخ سيادة الذكاء الاصطناعي في العالم الناطق بالعربية، لجعل السعودية لاعباً رئيسياً ومصدراً لتقنيات الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، لا مجرد مستهلك لها.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقاً