د.عبدالله بن موسى الطاير
القاعدة الشعبية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تولّد لديها هاجس حقيقي، وقديم، من تصاعد «الرجولة» الصينية «في مقابل «الرعونة» لجيل أمريكي مضروب الهوية لا يعرف الطفل فيه أذكر هو أم أنثى. وفي الوقت الذي تُعلم فيه الصين، حسب قولهم، أطفالها الرجولة وتدربهم على استخدام السلاح، لإطلاق روح المحاربين في نفوسهم منذ نعومة أظفارهم، تعاني الأسر الأمريكية والمدارس في معرفة جنس الطفل هل هو ذكر أم أنثى، هل هو حيوان، إنسان أم جماد، فلا أحد وفق بعض التشريعات له حق تقرير نوع الطفل إلا هو حين يبلغ سن التكليف ليختار أيسمي نفسه جنيفر أم جون، ماري أم جيمس.
العرض العسكري الضخم الذي نظمته بكين في مطلع الشهر، واستعرض فيه الرئيس الصيني أسلحة متطورة إلى جانب الرئيسيين الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون، استثار الرئيس الأمريكي الذي كتب مخاطبا نظيره الصيني: أبلغ تحياتي الحارة إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، وأنتم تتآمرون ضد أمريكا. لم ينظر إلى الحدث على أنه مناسبة عارضة، وتقليد تقيمه الصين كل عشر سنوات إحياء لذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، بل اعتبره إعلانا عن «محور شر» جديد يخطط للنيل من أمريكا.
لن أتحدث عن دوافع الرئيس الأمريكي، ونوازعه التي لا يعرفها سواه، ولكن يتضح من التصعيد اللاحق أن الرئيس ترامب لم يكن يمازح الرؤساء الثلاثة، فقد أوجعه الاستعراض المبهر، وتجمع المناوئين لأمريكا، وشعر بالغيرة، وهو الذي لا يخفي مشاعره كبقية السياسيين، وإنما تنداح في تعليقاته وقراراته أوضح ما تكون. لذا فبعد يومين، صعّد الموقف بإصدار أمر تنفيذي يحول فيه اسم وزارة الدفاع إلى «وزارة الحرب»، ليعيدها إلى سالف اسمها الذي حملته من عام 1789م إلى عام 1947م ليبعث بذلك «روح المحارب» المفقودة كما يتصور هو ومعاونوه. إنه ليس مجرد دلالة لفظية؛ بل هو تحول محسوب في ظرف دولي مضطرب.
لم يكن عرض بكين مجرد استعراضٍ للفخامة وقوة الرجال والآلة العسكرية، بل كان تعبيرا عن توحد قوى تجمعها مظالم مشتركة ضد الغرب. لذا لم يكن ترامب مبالغا باعتبار ذلك التجمع مؤامرة، فقد سلّطت تقارير الاستخبارات الضوء منذ فترة طويلة على التعاون العسكري للثلاثي الصيني الروسي الكوري الشمالي، من التدريبات المشتركة إلى عمليات نقل التكنولوجيا التي تقوّض هيمنة أمريكا في مجال الأسلحة فائقة السرعة والحرب السيبرانية. في الوقت ذاته لا يجب إغفال مغازلات ترامب السابقة لبوتين وكيم التي لطالما أشادت بقيادتهما القوية وسلطاتهما الواسعة التي يفتقد إليها الرئيس الأمريكي، لقد شعر بالغيرة أنه ينظر لذلك التجمع العالمي للقوة من خارجه.
يصّعد تغيير اسم وزارة الدفاع إلى «وزارة الحرب» إثارة حبكة الدراما، إلى ما يظهر أنه تحول عقائدي من الاحتواء إلى المواجهة، ومن الدفاع إلى الهجوم في مقابل عقلية الحرب الباردة التي اعتبرت الدفاع ردعا لا عدوانا. يُعيد قرار الرئيس ترامب إلى الأذهان حقبةً الهيمنة الأمريكية عندما «فازت أمريكا بكل شيء»، على حد تعبيره، مُستشهدًا بالحربين العالميتين، ويأمل وإدارته ومؤيدوه أن يقدح التغيير من الدفاع إلى الحرب صمودًا نفسيًا في روح جيشٍ يرون أنها وهنت وهانت بفعل سياسات الرؤساء السابقين.
تباينت ردود الفعل المحلية الأمريكية مما عكس الحالة النفسية المُشتتة. فقاعدة الرئيس ترامب أشادت بتغريدته بخصوص المؤامرة على أمريكا، بينما سخر الليبراليون واعتبروها وهمًا مرعبا، مُشبّهين ترامب بحبيب سابق منبوذ، وخارج حفلة التئام الشمل. لقي تغيير اسم وزارة الدفاع صدى مماثلاً من المؤيدين، إذ أشادت به وسائل الإعلام اليمينية باعتباره بطولة، بينما وصفه الديمقراطيون بأنه حماقة تستحث الحرب، للتغطية على فضائح أو إخفاقات داخلية.
ولأن أمريكا ليست كأي دولة، وواشنطن عاصمة القرار الدولي، والبيت الأبيض قصر حكم العالم، فقد اتسمت ردود الفعل بالازدراء الحذر؛ رفضت الصين انتقاد ترامب اللاذع ووصفته بأنه لا أساس له، بينما وصفته روسيا بأنه مُثير للسخرية. من جانبهم ينظر الحلفاء التقليديون، مثل اليابان وأوروبا، إلى التحول إلى عقلية الحرب بقلق مبرر، وذلك خوفا من أن تصبح أمريكا أقل قابليةً للتنبؤ بما ستفعل، وتُعطي الأولوية للتهديدات الأحادية على حساب تماسك الناتو ككتلة متعددة الأطراف.
في نهاية المطاف، تكشف مناورات الرئيس ترامب عن خلل بنيوي عميق في تفكير دولة عظمى تستدعي نظرية المؤامرة لضرب التعددية القطبية، وتسليح الخطاب الإبلاغي لحشد الأنصار، وفي الوقت نفسه المخاطرة بعزل أمريكا، المثقلة بتبعات حرب التعريفات الجمركية، في عالم تكسب فيه التحالفات لا العزلة الحروب، خاصة وأن أمريكا اعتادت كقوة عظمى أن توكل مهام التنفيذ للحلفاء عوضا عن التورط المباشر. هل نتصفح فيض خاطر رئيس مختلف في البيت الأبيض أم أن العالم يقف أمام مغامرة عالية المخاطر؟ فمع تصاعد التوترات، يتلاشى الخط الفاصل بين الدفاع والهجوم، والهزل والجد، والارتجال والتخطيط.