د.إبراهيم بن عبدالله السماري
السفر إلى الذات رحلة داخلية تُسْتكشف فيها النفس؛ للتعرف على قِيَمِها، وأهدافها، ومشاعرها، فتكون هذه الرحلة مفيدة لتعزيز الوعي الذاتي، وتحسين العلاقات مع الآخرين.
ومنذ أن بدأ الإنسان رحلته الأولى على هذه الأرض، لم يكن السفر مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كان عبوراً داخلياً في تضاريس الروح، قبل أن يكون عبوراً خارجياً بين تضاريس الجغرافيا، فالمسافر لا يحمل حقيبته فحسب، بل يحمل أسئلته، وأحلامه، ودهشته الأولى أمام الكون، والأحداث، ومن هنا تصبح كلَّ مدينة يَمُرّ بها مرآة، وكلَّ مَعْلَمٍ يراه رمزاً، وكل لحظة يلتقطها انطباعاً؛ فكلُّ ذلك يترك أثره في داخله.
في كتابه (انطباعات مسافر) يقدّم اللواء الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن الطخيس تجربةً تتجاوز حدود الوصف العابر للمدن والمعالم، لتغدو أقرب إلى رحلة في فلسفة المكان والزمان والإنسان، كما برزت فيه الروح الأمنية والوطنية، وبخاصة أن المؤلف أحد القيادات الأمنية العليا حيث شغل منصب مدير كلية الملك فهد الأمنية، وإدارة عدد من المعاهد الأمنية، ونائب مجلس الأمن الوطني.
إنّه كتاب يذكّرنا بأنَّ السَّفَر ليس رحلة في الطرقات بقدر ما هو رحلة في الأعماق، وأنَّ انطباعات المسافر قد تكون مفاتيحَ لفَهْم الذات كما هي نوافذ لفهم العالَم. وعندما تصاغ هذه الانطباعات بأسلوب السهل الممتنع يصبحُ جمال النص انعكاساً لروحٍ تبحث عن المعنى خلف الحرف، كما يبحث المسافر عن الأفق خلف الطريق، عابراً بين الكلمات، ملتقطاً من السفر جوهراً لا يلتقطه إلا القلب الشاعر. وبإشراقة تأملية يظل السفر أكثر من تذكرة ووجهة، إنه إعادة اكتشاف للذات عبر مرايا المدن وأصداء الثقافات؛ فالمسافر الحقيقي لا يعود كما غادر، بل يعود محمّلاً بوعيٍ أعمق، وإحساسٍ أوسع بالحياة.
وفي هذا الإطار الجميل العميق جاء كتابُ (انطباعات مسافر) دعوةً للتأمل في معنى الوجود، حين يُترجَم عبر خطوات على الأرض وأصداء في الوجدان، وليس مجرد رَصْدٍ لرحلة في الأمكنة.
ابتداءً انطلق المؤلف من قصة موسى والخضر عليهما السلام؛ ليأخذ بألبابنا إلى الارتباط الوثيق بين طلب العلم والسفر؛ مؤكداً على أن السفر ذاته قيمة علمية ثقافية تتجذر في عمق الوجدان، مبيناً تأثيرها في تغيير الكثير من المفاهيم لديه في ثلاثة أصعدة الشخصي والدراسي والاجتماعي. ثم يركز الحديث على دراسته الثانوية في الرياض وتحديداً في ثانوية اليمامة، قادماً من الدوادمي في الثمانينات الهجرية (الستينات الميلادية) مُثْرِياً حديثه بقيمة تأريخية تراثية وعمرانية واجتماعية عن مدينة الرياض آنذاك، ثم مراحل ابتعاثه إلى أمريكا للدراسة، وكل ذلك في تركيز واضح على الدلالات والتأثيرات، وليس مجرد الأحداث، وبأسلوب عفوي رسم بريشة الكلمات انطباعاته عند توديع الوالدين، وعند ركوب الطائرة لأول مرة، وزيارة بيروت الحُلُم، وبعض المواقف التي طبعت أثرها في ذائقته ووجدانه، مواصلاً السرد الانطباعي عن خط سير رحلته، وسكنه، ومداعبة ذكريات الأهل والوطن، ومعانقة الجَمًال في شاطئ ميامي الجميل، ورحلاته السياحية، وما فهمه عن فنّ التسويق، متمثلاً في «الجمعة السوداء» وعن العنصرية المقيتة في بعض مدن العالم، لينتقل بعد ذلك إلى وصف رحلته في إسطنبول عام 1968م ، ورحلاته إلى أمريكا مرة أخرى، مع توقفه في بعض المدن الأوروبية.
والجميل أنه في جميع ما كتبه لم ينسَ منهجه الأساس؛ فصبغ ذلك كله بصبغة ثقافية تأملية، كما أشار إلى حواراته التي حرص على أن تكون خالية من التعصب أو التعدي، مواصلاً الحديث عن بعض المواقف الصعبة والأحداث الطارئة التي تعرض لها وتعامل معها بحكمةٍ، أملتها عليه قناعاتُه عن السفر وأحداثه، وعن التنوع الثقافي للمجتمعات البشرية، والاستعدادات الشخصية بين البشر أنفسهم.
من خلال الانطباعات الجميلة في هذا الكتاب يتضح أن أجمل ما يتركه السفر فينا هو تلك القدرة على الإصغاء إلى همس الطرقات، ورؤية العالَم والمعالِم بعين جديدة كل مرة، كما لو أننا وُلدنا للتو؛ فيتجلّى السفرُ؛ أُفُقاً رحباً، وليس مسافة تُقطع فحسب. وأن المسافر حين يطوي دفاتر الطريق، فإنه لا يطوي أثرها في القلب؛ فكل مدينة تصير سطراً، وكل رائحة تُصبح قصيدة، وكل لحظة تصطبغ دهشة؛ فتتحوّل الرحلة إلى بذرة حياة جديدة. ومن ثَمَّ يمكننا القول إن السفر في جوهره ليس إلا محاولة لالتقاط المعنى الهارب من بين أصابع الأيام، وصياغته بلغة الانطباع والحنين.
وهكذا يبدو كتاب (انطباعات مسافر)؛ كأنه نهر من صور ومشاعر، ينساب بين جغرافيا العالَم مكاناً، وجغرافيا الروح إنساناً، ليتركنا أمام حقيقة واحدة: أنّ كل سفرٍ نعيشه، هو عودة إلى أنفسنا بوجهٍ جديد وقلبٍ أكثر امتلاء. إنه نهر لا يحتاج إلى سدود أو عناوين تُقيّده؛ لأنه حوّل السفر إلى معنى، والكتاب إلى حياة، والكلمة إلى دهشة، بل هو عبورٌ في أعماق الروح حين يتحوّل السفر إلى معنى، وليس مجرد وصفٍ لمدن وحكايات طرق، واستطاع اللواء د. إبراهيم الطخيس، أن يقنع القارئ أن كل رحلة هي عودة جديدة إلى الذات.
وختماً للقيل أقول: إن مقالي هذا رحلة موازية، كتبتها بصحبة صديقي المبدع ChatGPT حيث حاورتُه في مستخلصات ما قرأته من المفاهيم والدلالات في هذا الكتاب؛ لنتفق معاً، على أن المؤلف - عَبْرَ انطباعاته - قد سافر بكل ما هو «أنت»: نَفْسك ونَفَسك، في مَن هم حولك تكملةً لك؛ ليمنح «أنت» فرصة أن تكون «أنت»! وليثبت لنا أن الروح هي المرضعة الحنون للوفاء والعطاء معاً.. وبالله التوفيق.