شوقية بنت محمد الأنصاري
فرض الكتاب سلطته الفلسفية الوجودية بطقوس رحلة الإنسان العمرية، ودليل تاريخي نصطحبه في الحل والسفر، يثير بلغته الفكر للتأمل، وتشرق المعرفة من صورته لنعود ونسأل، وإذا بذاكرتي توقظ دفء كتاب الطفولة، فمنه شرارة الإبداع أومضت، حيث الحقيقة من خريطة منهج الجغرافيا بالصف الرابع الابتدائي ارتسمت حدودها المكانية، وطنية سعودية، وامتدّت بمؤشر القلم الرصاص من مكة لأبها، في يد طفلة فضولية، لم تدرك معالم الخريطة الورقية حين تكاثرت عليها المدن والمراكز والمسميات، ولاحت على ممرات الطرق صورة التّخُم من المنارات والحصون، فأدركت تصوير القليل منها، وشاركت في توثيقها بخارطة جديدة.
حماسة الطفولة لرحلة أبها خيالية، في زفة ملكية لعروس الجنوب، من جمال موكب القافلة وتنوع السيارات والحافلات، وضخامة العدة والتجهيزات، مشهد يتكرر في كل صيف، سياحة اعتدنا التحضير لها بثقافة مختزلة بالشراكة والألفة والفرح بتقسيم الأدوار، وتتبع المسار عبر نوافذ السيارات، وضباب الرحلة لم يحجب عنها الرؤية، فلاحت طبيعة أبها الآسرة، ورسالة تستثير نباهة الناشئة، لتنحت بمرايا الذاكرة انعكاسات التشكّل، كالتقاطه مرسمي لسحابة غيمها المنقوط على دفتر الرسم عاطرة ماطرة. بلاغة كونية منها انغمست مظاهر التكوين الجمالي، من نافذة السيارة العائلية، تستدعي العمارة والإشارات عبر الطرق ما يناسبها من خبرة معرفية مخزّنة بين دفتي كتاب الجغرافيا المختصر، وإذا بعظيم المنظر والفائدة، يحفّز المهارة بتدوين اللقطة، وأشارك أبي نطق تسمية المكان، ليعدله على صوت اللهجة، قاموس لغوي ينمو، ومؤشر نباهة للجيل عن ثقافة ماثلة. ومضيت على بساط الريح أعيش طفولتي، وتعلّقت بجسر الطرقات، وعقبة صماء من صميمها أبصرت قوة للحق، فأيقظت ذاتي، لأخط مساري من السراة لتهامة، والجبال ترقبني بشموخ لصعود القمة، والسهول تحنو ببريق رمالها لتلامس بلطف أكف معلم (أبي) أوقد شعلة الفكر حولي، فالجمال لا يُدرَّس، والتعايش بالمكان خطّه الكتاب بتأويلات تاريخية جغرافية أدبية روحية، ففي كل رحلة عائلية لأبها أنقش خارطة طريق العودة للمعنى الذي أزهر بالمكان، وبدفء البدايات، وأصوات في طربها سقت قاموسي بالشعر والأغنيات، من ديوان خالد الفيصل (قصائد نبطية) كان لسماء أبها مسامرة للقصيد والإلقاء، وأبي فيها الراوي، وبالشعر طرب يداوي، وحظي من المسامرة الاستماع، فأعيد التجربة بمحاكاة شعر القصيد، لتبدأ من هنا ذائقة الطفولة الموسيقية تتعمّق في تكوين مقارنة أصوات الطبيعة بأهازيج الشعر البديعة، وأغنية جماهيرية ساقت لنا الخير.
عدّتُ لأدراج مدرستي كطفلة بالفصول الدراسية، ونقشت خارطة أبها في درس جغرافي، على سبورة سوداء بطباشيرة بيضاء، لم أكن معلمة صغيرة، بل إعلامية خلف الشاشة تبرهن للجمهور كيف للمكان أن يعيد قراءته لجمالية التلقي؟ سألت المعلّم عن سحر صوت المطر، وعن لغة الضباب بقاموس الشعر، وعن موج النسيم وترانيم خطابه الممتد من الجبال حتى البحر. وتبدأ فصول الدرس السياحي:
- المفتاحة ذاكرة أبها الثقافية الفنية: ثنائية جمالية نطقت فلسفتها من مسارح الفن، بتدرج الضوء والألوان على سفح الجبل، والرقص الفلكلوري يهزّ المفتاحة قرية تراثها، لوحة ذات إحساس حركي موسيقي من دون تنظير، بالمعايشة تهذّبت زاوية الفنون، وعزف الشعر موال خطوة اللحون، هناك، من مدخل القرية أدركت حس أصالة الفن والثقافة بذاكرة جمعية، حكاية جداريات القط العسيري، وتمايل مزجها في رواية شعبية، وحرفة يدوية، وقبة للمتاحف والتراث رمزية الجمال الحضاري.
- منتزه القرعاء: ذاكرة المغامرة في انطلاقها، وذاكرة العين في اتساعها، خضرة بالمكان وارفة ظليلة، مشهد مسرحي حواري من الأشجار للمرتفعات، لرائحة الشواء، وأصوات العائلات منسجم النداء، جودة بالحياة تحققت باتساع الطبيعة، والتكيّف والبساطة، ولم تخل المغامرة من البحث عن الغدران والسدود في الشعاب، والأودية الجارية، فكوّنت معجما للتراث الجغرافي، نتتبع مجرى نجلٍ صغير، كأنه خيطٌ من الذاكرة، وصوت خريره من بين الصخور يحكي عن سرّ الديمومة للتكيف والسعي، وعن فنّ البقاء وسط التغيير، إنه صفاء المياه حين يسري في جسد الوادي رقراقا نقيا، يبثّ طهره في الحياة، وتمطر سعادته على الأحياء.
- الحبلة: رسمت لي سبل التوازن بين الخطر والجمال، فمكانها عجيب يقع على جرفٍ شاهق، تعلّمتُ منها التأهب والحذر بين السقوط والتسامق، حيث انحدار هوّة مخيفة لأسفل القرية القديمة، والتلفريك يمرّها معلقا بحبال هندسية، تأملتها بعمق فلسفي: كيف للحيرة أن تطوق الجمال بالحدّة والجرأة، وتخفي السلطة، فلا تدرك طريق العودة؟
- حديقة (أبو خيّال) بتشديد الياء، على الرغم من سماعنا لأهل أبها نطقها من غير تشديد، إلا أن شدة الارتفاع الجبلي وصلابة البيئة خلقت فينا رسم صورة للخيل العربي بدلا من الخيال (الخروف)، لنعيش على ترديد اسم الحديقة بـ(أبو خيّال) في مدرجاتها نزهة خضراء بأشجار صنوبرية، وفي التلفريك فضاء للمدينة يسمو بأبها فوق التسامي، ويعبر الخوف وجدان طفلة، تتأمل تفاوت المقاييس بين ذاكرة تحتضن الأرض، وأخرى تعانق السماء، شعور يستدعي الحواس بشدة للتصوير والكتابة على سطر جديد يؤصل نماء رحلة التكوين، تعلّقت تناقضاتها بين خوف طفيف من العلو، ونشوةٍ عميقة للتحليق فوق التفاصيل، ومشهد على الجبل الأخضر يستثير فنون الحماسة والغناء والرقص والضوء، وجنون المغامرة والرياضة.
هذه المسيرة الممتدة عبر طرق السراة والسواحل بين الجبل والبحر، حفّزت الطفولة للتخييل ورسم رحلة أبها على بساط الريح لتتحقّق ممكنات العودة، فمنذ بداية هذا العام تكررت الرحلة عبر قافلة جوية أسبوعية وحقائبها الأفكار والكتب، ولم تتحرك حروف سرد الرحلة سوى من ذاكرة كتاب الجغرافيا الطفولي، وتلتها منظومة الأشعار والأغاني وهي تغازل النسيم وسلامه المتدفق من مدارج سلم الطائرة، ونستدعي الشعراء ممن تغنوا بجمال أبها وسحرها، فعلى أنغام (يا سحايب سراة أبها) أكد الأمير الشاعر (خالد الفيصل - حفظه الله) حقيقة الارتباط الوثيق بين الطبيعة والإبداع، ومن أنغام (سايق الخير) مهّد للجمال أن يسوّق الفرحة لعشاق المطر من زوايا المدينة، ورافقه في استلهام المعنى الأمير(بدر بن عبد المحسن-رحمه الله) في قصيدة بعنوان (روحي هوى السودة) والشاعر أحمد رجب على أنغام أغنية: قلبي حبك والله يا أبها إنتِ أجمل من الخيال.
مضيتُ والزمن في خطاب، ومقاييسه من مكة لأبها تجري بالساعة كالسّحاب، أتنفس الصعداء وعلى سلم الأربعين حسمت نقطة العودة، لأصنع تاريخًا شخصيًا وثائقيًا، كتبت عن أبها أبجدية الذاكرة، في نص متجدد التجربة، متدرب على استرجاع شغف الطفولة، من لحظة تسلق حافة جبل شاهق، والارتكاز على حبال الوتد المعقودة، وأنقّب بالعلم ثروة منشودة، حيث التاريخ منهجي، والسلطة في إبداع مملكتي، بطفولة في الحي موهوبة، سرّ جمالها ذائقة بالأدب تهذّبت، ومن فلسفة فنون المعنى أبدعت.
ختاما... أبها ليست موطنًا عابرًا، بل امتدادٌ جمالي لتكويني الإنساني، كتبتني مبدعا قبل أن أكتبها، وقرأتها بتأمل نداها وفلسفة رمزيتها، وسيميائية طبيعتها، التي أعادت التفكير حول العلاقة بين الإنسان وتاريخه، بين الجمال وتأسيسه من اللغة والمكان والجغرافيا والثقافة والزمان، إن في أبها ومدننا وأوطاننا كتابًا لا تنتهي سطوره، نعيد قراءته من مرآة تعكس جودة حياتنا، ونماء إبداعنا.