أ.د.عثمان بن صالح العامر
يعيش الإنسان هذه الحياة مداً وجزرا، طولاً وعرضا، فرحاً وترحا، سعادةً وشقاء، خيراً وشرا، صحةً وسقما، حتى يموت، ومن أشد الشرور وأعظم البلايا (المرض)، والأمراض ليست تلك التي تصيب الأجساد فحسب، بل يوازيها وربما أخطر منها ما يعتري الأنفس ويصيب القلوب، وما أقسى الخذلان حتى يتلبس الإنسان في هذه الدنيا، فهو وإن لم تصنفه غالبية العامة منا على أنه من الأوجاع التي تستوجب العلاج إلا أنه في نظري من أعنف أمراض النفوس التي تهجم على بني آدم في دنياه، بل وتلاحقه في آخرته، كيف لا وهو ذلك الشعور العميق من الألم الوجداني الذي ينشأ عندما يخيّب أحدهم آمالنا، أو يتخلّى عنا في لحظة كنّا في أمسّ الحاجة إليه. قد يكون الخذلان من زوج عزيز، أو ولد عاق، أو صديق قريب، كنا نعده عوناً لنا في خوض دروب الحياة، ونعرِّف به بأنه (الأخ الذي لم تلده أمنا)، أو من حبيب استقر بين الحنايا ردحاً من الزمن وما زال، أو حتى من أحد أفراد العائلة الذين هم في قاموسنا وتربيتنا (العزوة والسند بعد الله في الملمات)، أو نسيب وثقنا به وزوجناه أو... هذا الشعور يترك أثراً في النفس شديداً، لأنه يضرب في صميم الثقة والتوقّع الطبيعي بأن من نحبهم سيقفون بجانبنا حين نحتاجهم يوماً ما. وقد يتمظهر هذا الداء في: (التخلّي في أوقات الشدّة، والوعود الكاذبة، والتقليل من شأننا، والاستهانة بنا أمام الآخرين، وعدم الاكتراث بمشاعرنا، وإفشاء أسرارنا، وأشدها الخيانة والغدر والطعن في الظهر، وتوظيف ما بُحنا له به في النيل من شخصنا، وتقزيم ذواتنا أمام مجتمعنا الصغير، حتى أننا نصبح نحتقر أنفسنا جراء ما علانا من تشويه مقصود ومبرمج ومدروس من قبل من كنا نظنه حزامنا في وقت الشدائد.
ومع أن الخذلان في هذه الدنيا مؤلم ولا يمكن التقليل من أثره العميق على النفس البشرية إلا أنه في كثير من التجارب التي أعرفها عن قرب لم يكن بالنسبة لهم نهاية الطريق، بل كان نقطة انطلاق نحو نضج نفسي أعمق، وفهم للعلاقات أدق، وقوة داخلية فاعلة وإيجابية، فالتجربة علمتهم كيف يختارون من يمنحونهم ثقتهم، وكيف يعيدون بناء ذواتهم من جديد بعد أن ذاقوا مرارة وشدة وقع الألم الذي ألمَّ بهم يوماً ما.
هذا في الدنيا، أما الخذلان الأخير الذي سيقع يوم الدين فليس معه خط رجعه، ولا يمكن أن يكون نقطة انطلاق وعودة للذات من جديد، ألا وهو خذلان الشيطان لمن انساق معه وسار في طريقه حتى هلك وغوى، والذي كشف عن حقيقته وزمن حدوثه ربنا سبحانه وتعالى في قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (22) سورة إبراهيم، يا الله، هل بعد هذا خذلان أشد؟، خاصة أنه في موقف لا رجعة فيه، ولا فرصة ثانية لنا لنعيد حساباتنا مع الشيطان الذي تخلَّى عنَّا ونحن اتباعه بطريقة فظيعة لا يمكن أن يتصوَّرها بشر، وقانا الله وإياكم خذلان الدارين، وإلى لقاء، والسلام.