عبدالوهاب الفايز
نواصل اليوم الحديث حول أهمية وجود وظائف نوعية تستوعب الأعداد المتنامية للشباب من خريجي الجامعات السعودية والأجنبية، ونجاحنا في جبهة سوق العمل، بكل تحدياته، يعد بين المؤشرات الرئيسية لتقييم فعالية السياسات الحكومية.
وكما يقول الاقتصاديون، التوظيف يُعد مؤشراً مركزياً، ولكن لا يمكن فصله عن مؤشرات أخرى لمعرفة وضع اقتصادنا الوطني مثل: النمو الاقتصادي وتوسع الناتج المحلي الإجمالي الذي يفتح الباب لزيادة الوظائف، والتضخم واستقرار الأسعار والذي يؤثر على القوة الشرائية، وكذلك تنويع مصادر الدخل والذي يقلل من مخاطر الاعتماد على النفط ويخلق قطاعات جديدة للتوظيف، ويبدو في حالتنا السعودية الخاصة، التوظيف هو الحلقة التي تصل هذه المؤشرات ببعضها، لأنه يعكس قدرة الدولة على تحويل النمو إلى (أثر اجتماعي) مباشر ينفع الناس.
في التجارب الدولية المقارنة المعروفة يوضع التوظيف كأحد المؤشرات الأساسية. في الولايات المتحدة، يُعتبر تقرير الوظائف الشهري أهم مؤشر اقتصادي، وتُبنى عليه قرارات السياسة النقدية والانتخابية. في ألمانيا تمثل معدلات التوظيف الصناعي دليلاً على قوة الاقتصاد الحقيقي، بعيدًا عن تقلبات الأسواق المالية. في الدول النامية يُستخدم معدل البطالة باعتباره المؤشر الأكثر حساسية لقياس نجاح أو فشل الحكومات.
في السعودية، نجد هذا المؤشر يبرهن نجاح السياسات الحكومية في التوطين، مع انخفاض معدل البطالة العام إلى 2.8 % في الربع الأول من عام 2025 - وهو أدنى مستوى تاريخي - ومعدل البطالة بين السعوديين إلى 6.3 %، يتضح أن الحكومة قد حققت إنجازات ملموسة في تحقيق أهداف رؤية 2030 قبل مواعيدها المحددة. هذا التقدم، ليس مؤشراً إحصائياً فحسب، بل يعكس استراتيجية حكومية شاملة تركز على خلق فرص عمل مستدامة.
وهذه الاستدامة ضرورية وتحتاج نقلة نوعية إذا عرفنا أننا مقبولون على مرحلة قد تتسم بالصعوبات والتحديات مع تراجع أسعار النفط. هنا التوسع في التوطين النوعي من ضرورات الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهذه تتطلب النظر إلى المستقبل بشكل تحليلي أعمق يتجاوز الأرقام حتى نكتشف مجالات التوظيف النوعي الجديدة.
نحتاج التعرف: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي (AI) والاقتصاد الرقمي أن يعيدا تشكيل سوق العمل، ليس كتحدٍ، بل كفرصة لابتكار نموذج اقتصادي معرفي يعزز الاستدامة والإنتاجية، والخروج من عنق زجاجة الإيرادات النفطية.
برامج ومبادرات رؤية 2030 وضعت التوظيف (أولوية إجتماعية واقتصادية)، حيث تم تعديل الهدف الأصلي لخفض معدل البطالة إلى 7 % بحلول 2030 إلى هدف أكثر طموحاً يبلغ 5 %، استناداً إلى التقدم السريع في عامي 2024 و2025. فقد ارتفع عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص إلى 2.48 مليون في الربع الأول من 2025، بزيادة قدرها 143 ألف وظيفة جديدة، مدعوماً بنمو بنسبة 12 % في التوظيف الوطني.
كما ساهمت برامج التوطين في تعزيز هذا الارتفاع، مع قرارات جديدة في 2025 ترفع نسبة التوطين في مهن مثل طب الأسنان إلى 45-55 %، والمهن الإدارية إلى 30 % في المنشآت التي تضم خمسة موظفين أو أكثر.
بالإضافة إلى ذلك، أدت إصلاحات سوق العمل إلى زيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة إلى 36.3 %، مع انخفاض معدل بطالتها إلى 10.5 %.
هذه الإنجازات ليست عشوائية؛ إنها نتيجة استثمارات مكثفة في تطوير القدرات البشرية، مما يؤكد أن التوظيف ليس هدفاً كمياً فقط، بل جزء أساسي من استراتيجية أوسع للتنويع الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على النفط.
ونجاح الحكومة نحتاج البناء عليه لمواجهة التحديات المتبقية والتي تتطلب نظرة متوازنة، فرغم التقدم الملحوظ تظل هناك تحديات تحول دون اعتبار التوظيف نجاحاً مطلقاً لسياساتنا الحكومية.
على سبيل المثال، مازال التفاوت في معدلات البطالة مرتفعا في بعض المناطق. الرياض سجلت أدنى معدل بطالة بين السعوديين خلال الربع الأول بنسبة 3.4 %، تلتها نجران بـ4.2 %، ثم المنطقة الشرقية بـ5.0 %. بينما عسير والحدود الشمالية سجلت أعلى النسب بـ 10.7 % و10.3 %، ثم تبوك 9.8 %، والباحة 9.5 %. تبعتها المدينة المنورة بـ 8.3 %، مكة المكرمة 7.9 %، حائل 7.8 %، جازان 7.6 %، القصيم 6.5 %، ثم الجوف 6.4 %.
ايضا هناك جانب مهم، فالمؤشرات الكمية (خداعة) ومن طبيعتها الأخرى حجب الرؤية عن أمور حيوية. التركيز على تحقيق مؤشرات الأداء الكمية قد يحجب جودة الوظائف، فقد تكون بعض الفرص الجديدة منخفضة الأجر أو غير مستقرة. نحتاج مقاييس أكثر شمولاً تغطي احتساب الإنتاجية والأجور. ايضاً في سياق التحديات، يتوقع ان يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى إزاحة (20 إلى 30 %) من الوظائف الحالية بحلول عام 2030، خاصة في قطاعات مثل التصنيع والإدارة. هذه التحديات تعزز الأولوية لتكييف سياسات سوق العمل السعودي.
كما قلنا الأسبوع الماضي، الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي مجالان مهمان لبناء اقتصاد معرفي مستدام، وهنا نتحدث بهموم التوطين لإثراء النقاش المجتمعي الموضوعي بدلاً من النظر إلى الذكاء الاصطناعي كتهديد للوظائف.
نتطلع إلى السياسات الحكومية الذكية حتى يتم تحويله إلى شريك استراتيجي لبناء «اقتصاد معرفي هجين» يجمع بين القدرات البشرية والآلية، هذا النموذج ليس مجرد تدريب على مهارات تقنية، بل يركز على إعادة تصميم الوظائف لتكون أكثر استدامة، مثل استخدام AI في قطاع الطاقة المتجددة لتحسين كفاءة الإنتاج دون تسريح العمالة، أو في التعليم لتخصيص البرامج التدريبية حسب احتياجات السوق.
الأسبوع الماضي، وفي الندوة العالمية لمنظمي الاتصالات الخامسة والعشرين، التي تنظّمها هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية بالشراكة مع الاتحاد الدولي للاتصالات، أوضح هيثم بن عبدالرحمن العوهلي محافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية المكلف خلال كلمة الافتتاح للندوة العالمية ما يعزز أهمية التحول نحو اقتصاد معرفي هجين يجمع بين القدرات البشرية والذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي. كشف العوهلي ان العالم يحتاج إلى استثمار ما يقارب 2.8 تريليون دولار «لسد الفجوة الرقمية عبر أربعة مستويات رئيسية: الربط والبنية التحتية، القدرات البشرية، تكاليف الوصول، والسياسات والتنظيمات. ومن هذا المبلغ، يُقدر أن 1.7 تريليون دولار مطلوب لمجال الربط والبنية التحتية وحدها، وهو رقم يزيد ثلاثة أضعاف عن تقديرات دراسة سابقة في عام 2020، مما يعكس التسارع في التحديات الرقمية الناتجة عن الجائحات والتطورات التكنولوجية».
الفجوة الرقمية (Digital Divide) هي الفرق أو التفاوت في الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) واستخدامها، بما في ذلك الإنترنت، الأجهزة الرقمية، والمهارات التقنية، بين الأفراد أو المجتمعات أو المناطق أو الدول.
هذه الفجوة الرقمية التي أشار لها العوهلي يبدو ان الاقتصاد الرقمي السعودي استوعبها وتعامل معها، وهذا مؤشر نجاح للسياسات الحكومية. يُتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي في اقتصادنا السعودي بنحو 135.2 مليار دولار بحلول 2030، أي 12.4 % من الناتج المحلي الإجمالي - وهذا يجعله نموذجاً عملياً للتعامل مع هذه الفجوة.، ففي الوقت الذي يركز تصريح العوهلي على ضرورة تضافر الجهود الدولية لتحقيق مجتمعات رقمية شاملة، لم نتأخر لإطلاق برامج التوطين في المهن الرقمية لدمج الاستثمارات في البنية التحتية مع بناء القدرات البشرية لخلق فرص عمل مستدامة مستقبلية، وهذا تحد جديد لوزارة الاستثمار.
على سبيل المثال، إذا تم توجيه جزء من هذه الاستثمارات العالمية نحو مشاريع سعودية مثل مدن الذكاء الاصطناعي أو شبكات الجيل السادس (6G)، فإن ذلك لن يسد الفجوة محلياً فحسب، بل سيعزز التوظيف في قطاعات عالية القيمة، مما يقلل من مخاطر البطالة التكنولوجية التي قد تصل إلى 20-30 % من الوظائف الحالية بحلول 2030.
في ختام هذه المقالات، المؤكد ان يظل التوظيف أولوية رئيسية للسياسات الاقتصادية السعودية، مدعوماً بإنجازات ملموسة في رؤية 2030. لكن التحديات المستقبلية، خاصة مع تراجع الإيرادات المالية، وانتشار الذكاء الاصطناعي والفجوات الرقمية، هذه تتطلب تحولاً نحو نموذج اقتصادي معرفي يجعل AI أداة للاستدامة لا للاستبدال، مع الاستفادة من الشراكات الدولية لتعزيز الابتكار والشمولية. هذا الفكر الجديد يتطلب نقاشا وطنيا واسعا يشمل الجهات الحكومية، القطاع الخاص، والأكاديميين، لضمان أن يصبح التوظيف، ليس مجرد مؤشر اقتصادي، بل ركيزة لمجتمع أكثر عدلاً وابتكاراً. بهذا النهج، يمكن لبلادنا أن تكون نموذجاً عالمياً ناجحا في التوفيق والتوازن بين التقدم التكنولوجي والتنمية البشرية.