د. محمد بن أحمد غروي
شهدت العاصمة الماليزية كوالالمبور انعقاد القمة الدولية الثانية لقيادات الأديان، التي نظمت برعاية رئاسة الوزراء الماليزية وبالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي، وحضرها أكثر من 400 شخصية دينية من مختلف الأديان والمذاهب، وتناولت جلسات القمة قضايا ملحّة، أبرزها النزاعات ذات البعد الديني، ودور القادة الدينيين في مقاومة العنف، والدبلوماسية الدينية كأداة للتقريب بين الشعوب، إضافة إلى ملف غزة الإنساني الذي فرض نفسه على جدول الأعمال بقوة. ما يلفت الانتباه في هذه القمة هو حجم التمثيل الدولي الرفيع من وزراء وقادة دينيين يمثلون مختلف الأديان الشرقية والغربية، وأعطى هذا التعدد مصداقية لرسائل القمة التي أكدت أن القادة الدينيين مدعوون لرفع أصواتهم ضد العنف والظلم والتمييز، والدفاع عن كرامة الإنسان، والتصدي لجذور الصراعات، وهو ما يعكس إدراكاً عالمياً بأن العنف المغلف بخطاب ديني يقوّض السلم الأهلي، وأن الكراهية الدينية أو العرقية تهدد استقرار الأوطان ومستقبلها.
صوت القادة الدينيين بدا أكثر إلحاحاً في الدعوة إلى استعادة القيم الجامعة ومبادئ العدالة، باعتبارها الركائز الأخلاقية التي يمكن أن تؤسس لعالم أكثر عدلاً وسلاماً، فالمشتركات الإنسانية لا بد أن تتحول إلى أرضية جامعة للدفاع عن معنى الإنسانية الحقيقي، وفي هذا الإطار، أكدت القمة أن الاختلافات الثقافية، إذا لم تُدار بحكمة، قد تتحول إلى محرك رئيسي للصراعات في المستقبل، وهو ما يعيد إلى الأذهان نظرية «صراع الحضارات» لهنتنغتون، لكن مع نبرة تحذير تدعو إلى بناء الجسور لا تعميق الفجوات.
البيان الختامي للقمة حمل رسائل قوية، أبرزها التوافق بين القادة الدينيين على تأييد حل الدولتين وتجريم ما جرى في غزة، والمطالبة بالضغط على حكومة الاحتلال الإسرائيلي لاحترام المواثيق الدولية، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، وضمان حقوقه المشروعة وإقامه دولته المستقلة، وهذا الموقف، رغم أنه قد لا يحمل آليات سياسية مباشرة، إلا أنه يضيف ثقلاً أخلاقياً وروحياً يعزز جهود الدبلوماسية الرسمية.
لا يمكن تجاهل الدور البارز لرابطة العالم الإسلامي وأمينها العام معالي الشيخ الدكتور محمد العيسى، الذي استطاع أن يحول الرابطة إلى منصة عالمية للحوار بين الأديان والمذاهب، كما أدرك أهمية التأثير الروحي للقادة الدينيين في تحصين المجتمعات من أفكار التطرف والإقصاء، ولذلك جاءت القمة لتجسد هذا الدور في صورة عملية، من خلال جمع المختلفين على مائدة واحدة والتأكيد على أن القيم الإنسانية المشتركة أقوى من نوازع الكراهية.
الحكومة الماليزية، بقيادة داتو سيري أنور إبراهيم، أظهرت من خلال هذه القمة استمرار دورها كوسيط حضاري في حل النزاعات، فهي دولة حملت في تاريخها الحديث محاولات التوسط في أزمات ميانمار، والصراع التايلاندي- الكمبودي، وتعمل على تعزيز حضورها في القضايا الإسلامية والعالمية، ويعكس احتضانها لهذه القمة رؤيتها في أن التعددية الدينية والثقافية ليست تهديداً، بل رصيداً يمكن استثماره في بناء السلام.
يبقى السؤال الجوهري: ما الخطوة التالية بعد قمة كوالالمبور؟
نعلم أن البيانات الختامية وحدها لا تكفي ما لم تتحول إلى مبادرات تنفيذية ملموسة، مثل إطلاق برامج مشتركة بين القادة الدينيين لمكافحة خطاب الكراهية، وتأسيس منصات للحوار المستدام، ودعم الجهود الإنسانية في مناطق النزاع، كما أن الرهان الأكبر يكمن في تحويل هذا الحراك إلى دبلوماسية دينية مؤسسية تسهم في صناعة القرار الدولي، وتضغط باتجاه إرساء العدالة وإنهاء معاناة الشعوب، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، لذا، كشفت قمة الأديان في كوالالمبور عن أن العالم بات أكثر وعياً بأن الأزمات ذات الجذور الدينية لا يمكن حلها إلا عبر صوت القادة الروحيين، وما بعد القمة، يبقى على المشاركين أن يبرهنوا للعالم أن هذا الصوت ليس عابراً، بل هو نداء مستمر لبناء عالمٍ يليق بالإنسان، بعيداً عن الكراهية والعنف والإقصاء.