خالد بن عبدالرحمن الذييب
كان سارتر وسيمون دي بوفوار يجلسان مع رفقاء الفكر لمناقشة فلسفة الوجودية في مقهى دو فلور في قلب حي سان جرمان دي بري في فرنسا على تقاطع شارعي سان بينوا وشارع سان جرمان والذي كان جزءاً من مشروع تجديد باريس الواسعة في عهد الإمبراطور نابليون الثالث بين عامي 1853- 1870م، بإشراف البارون جورج أوجين هاوسمان والذي كان موظفاً حكوميا كبيراً، وكان أبرز ملامح مشروعه الشوارع الواسعة «البوليفاردز» والمباني المتناسقة والحدائق والمساحات الخضراء.
وفي فيينا وفي قلب الحي الأول فيها وفي طابق أرضي من قصر «باليه فيرستل» ذاك المبنى الفاخر والذي يعود إلى القرن التاسع عشر، يقع مقهى سنترال منذ عام 1876م والذي كان مجمعاً لمشاهير ومؤثرين أمثال سيغموند فرويد، وتروتسكي، وفرانز كافكا، هذه المنطقة المحيطة بالمقهى وتصميمها ذو النمط الإمبراطوري، تمت نتيجة خطة حضرية كبرى بدأت في عهد الإمبراطور فرانز جوزيف الأول من خلال لجنة متخصصة من ضمنهم المعماري هايتريتش فون فيرستل. وفي العصر الحديث أصبح مقهى «ذي إيليفانت هاوس» في أدنبره مزاراً سياحياً، حيث بدأت ج.ك.رولينج كتابة أجزاء من سلسلتها الشهيرة «هاري بوتر».
إن نجاح هذه المقاهي لم يكن صدفة، بل كان نتيجة لتخطيط عمراني ذكي. قام به المتخصصون والمهتمون في حينه، فالمدن التي تزدهر فيها الإبداعات هي تلك التي توفر «مساحات ثالثة» (Third Places)، وهو مصطلح صاغه عالم الاجتماع الأمريكي راي أولدنبرغ في كتابه «المكان الجيد العظيم» عام1983وهي أماكن تقع بين المنزل والعمل، حيث يمكن للأفراد التفاعل وتبادل الأفكار بحرية. هذه المقاهي، التي غالبًا ما تكون متكاملة ضمن أحياء نابضة بالحياة، توفر هذا النوع من المساحات التي تشجع على التفكير الإبداعي والابتكار.
المقاهي مساحات اجتماعية يخلقها المخطط العمراني فلسفتها تعتمد على العزلة عن الناس وسط صخبهم، لأنه بكل ببساطة من أراد العزلة التامة فهناك الصحاري والبراري والتي تعتبر أفضل مكان للعزلة، بل إن هناك نقطة نيمو والتي تبعد حوالي 2688 كم عن أقرب نقطة برية، ففيها سيجد الإنسان عزلة تامة أقرب إنسان له هم رواد الفضاء الذين يعملون في محطة الفضاء الدولية والتي تبعد 400كم عن الأرض، إذن فإن فلسفة المقاهي ليست بالعزلة لتامة، ولكن في العزلة المتحركة، تلك العزلة التي تكون فيها وحيداً وسط الناس، عزلة تجعلك تتأمل في الناس من حولك لتنتج إبداعاً وفكراً، فتشعر بكل هذا الجمال المحيط بك، وسط مكان حي بالتفاعلات البشرية.
أخيراً...
المخطط الناجح يشعر بثقافة المجتمع مهتم بارتقائه، يصنع هذا التكامل بين الصخب والعزلة، بين الضجيج والهدوء بين تجمع خارجي وإطلاله بديعة.
ما بعد أخيراً...
هنا المقاهي، وفي القادم ممرات المشاة.. وعند «كانط» الخبر اليقين!