تشهد بعض المنظمات الدولية تقدماً في الأداء واتساق السياسات بين الأعضاء، والآخر منها تراجع في مؤشرات العمل المشترك وتوحيد السياسات نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية المستجدة، بالإضافة إلى حالات التقارب والتعارض المتقلبة بين أعضاء المنظمة تجاه الملفات الحساسة.
ومن المؤكد بأن الاتحاد الأوروبي من ضمن هذه المنظمات باعتباره أحد أهم الاتحادات السياسية والاقتصادية الإقليمية على مستوى العالم منذ تأسيسه بشكله الحالي مطلع التسعينيات. ولعقدين متتاليين كان ينظر لهذا الاتحاد على أنه تجربة ناجحة لتحقيق التكامل بين أعضائه حتى بلغ سبعا وعشرين دولة استطاعت أن تصل إلى اندماج اقتصادي غير مسبوق.
لكن بطبيعة الحال مع مرور الوقت وتفاقم الأزمات الاقتصادية مثلما حصل عند حدوث الأزمة الاقتصادية الإسبانية في 2008، وأزمة الدين الحكومي اليوناني في 2010، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية اللذين دخلا حيز النفاذ في عام 2020. وأيضا الأزمة الأوكرانية-الروسية وانعكاساتها على تأمين إمداد الدول الأوروبية بالغاز الطبيعي، خاصة الصناعية منها بعد فرض العقوبات على روسيا من جانب، ومواصلة الاتحاد الأوروبي تقديم الدعم لكييف عبر تأمين الاحتياجات العسكرية والمساعدات المالية في خضم اتباعه لمبدأ التقشف في سياساته المالية الداخلية من جانب آخر.
فمن خلال مراجعة معدلات النمو والناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي نجد بأن هذه الأحداث والأزمات أثرت بشكل سلبي على الاندماج الاقتصادي بين الدول الأوروبية مما أدى إلى تراجع حصة الاتحاد في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في السنوات الماضية، حيث بلغت حصة أوروبا ما يعادل 24,9% من النسبة الكلية للإجمالي العالمي في 2005، ولكنها ظلت تنخفض بشكل مطّرد حتى وصلت إلى 17,4 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في سنة 2023. أضف إلى ذلك، العوامل الخارجية المؤثرة على الاقتصاد الأوروبي كالنمو الصيني المتصاعد ومحافظة أمريكا على مكانتها كأكبر قوة اقتصادية عالمية.
وأصبح الاتحاد الأوربي في كل أزمة يمر بمأزق صعب لتجاوز التحديات المتزايدة التي تسبّب انقساما في الآراء والتوجهات بين الأعضاء، ما يهدد تماسك الاتحاد وعمله ككتلة واحدة تسعى دوما إلى تحقيق سياسات مشتركة.
ما سبب في إثارة المخاوف لدى بعض الشخصيات السياسة الأوروبية من المصير المستقبلي للاتحاد، لأن الأسس التي بني عليها غير ثابتة وتهتز في ظل التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة، وجعلهم ذلك يدعون إلى ضرورة إجراء بعض الإصلاحات داخل الاتحاد الأوروبي باعتباره البيت الذي يجمع كل الأوروبيين، ويجب المحافظة عليه عبر تبني عملية إصلاح اقتصادية تساهم في معالجة المصاعب وتجديد السوق الداخلية لتحقيق مرحلة أعلى من الاندماج المشترك.
إذ قدم رئيس الوزراء الإيطالي السابق ورئيس البنك المركزي الأوروبي الأسبق ماريو دراغي مقترحا لمستقبل القدرة التنافسية الأوروبية مع نهاية سنة 2024 سمي بخطة دراغي. ويؤكد في هذا التقرير على ضرورة تجديد السوق الأوروبية الموحدة من خلال الابتكار وتوفير عوامل البيئة الاقتصادية ذات المنافسة العادلة. وكذلك زيادة الاستثمار في قطاع الطاقة وإجراء التحديثات اللازمة له بشكل كامل لدوره المهم في حماية الأمن الاقتصادي المشترك. وإرشادات أخرى تتعلق بالوضع الاقتصادي الراهن للاتحاد.
وعلى الرغم من أن هذه الخطة لاقت ترحيباً من المفوضية الأوروبية لكنها سرعان ما ارتطمت بمسألة جديدة، ألا وهي الاتفاق التجاري الإطاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الذي ينص على فرض رسوم بنسبة 15% على أغلب السلع المستوردة من دول الاتحاد، وبذلك يعد هذا الاتفاق عائقا إضافيا يحد من فرص نجاح تطبيق خطة دراغي.
من جهة أخرى هناك فريق آخر مبعثر داخل الدول الأوروبية لديهم تحفظ على مصير الاتحاد الأوروبي معللين ذلك بأن الظروف الراهنة والمحيطة به تثير الشكوك حول مستقبله. مثل المشاكل الداخلية وتراجع المكانة العالمية للاتحاد، وكذلك الوضع الاقتصادي الناتج عن الركود وتباطؤ النمو الذي تمر به كبرى الدول الاقتصادية في أوروبا.
ولا سيما مع ظهور حركة هروب لكثير من الشركات المحلية الناشئة من الأسواق الأوروبية والتوجه إلى السوق الأمريكي والاستثمار فيه، مما شكّل بالنسبة لهؤلاء الأشخاص قناعات مؤكدة على انخفاض فعالية وأهمية الاتحاد الأوروبي.
ونستنبط من هذه الاختلافات بأن مصير الاتحاد الأوروبي سيكون مبنيا على مقدرة وكفاءة الحكومات في توحيد الجهود للتغلب على هذه التحديات سويا كما اتصف الاتحاد بهذه الخصلة لفترة طويلة ما قد يساهم في إعادة الصعود مجدداً، أو ربما سيكون من الصعب إيجاد أرضية عمل مشتركة تتضافر فيها الجهود بين الأعضاء مستقبلاً، وبالذات مع تصاعد الشعبوية داخل الدول الأعضاء الناتجة عن التباين في المصالح بينها وتنامي الخلافات المشتركة.
** **
- عبد العزيز بن عليان العنيزان