د. محمد بن إبراهيم الملحم
استكمالا لاستشهاداتي الدولية حول هذه الرافعة والمتمثلة في الذكاء الاصطناعي AI الذي أرى أنه بإذن الله سيرتقي بالتدريس بشكل كبير فنتحدث اليوم عن تجربة سنغافورة وهي قائدة الترتيب العالمي في التعليم ففي اختبار PISA 2022 حقق طلابها أعلى المراكز في الرياضيات (575)، والقراءة (543)، والعلوم (561)، متفوقا على معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وإن نحو 92 في المائة من الطلاب وصلوا إلى مستوى الكفاءة الأساسية (المستوى 2) في الرياضيات، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي (69 في المائة) والنسبة الأعلى عالميا بين المتفوقين (المستوى 5 أو 6) كانت في سنغافورة فهي 41 في المائة في الرياضيات، و24 في المائة في العلوم، و23 في المائة في القراءة. وقد سجلت سنغافورة تقدما مستمرا عبر الأعوام، حيث حافظت على مستوى أداء استثنائي منذ دخولها الاختبارات لأول مرة، وأظهرت تحسنا ملحوظا في العلوم مقارنة بـ2018 ومرد هذا النجاح يعود إلى أن سنغافورة تعتمد على منهج تعليمي صارم يركز على الإتقان العميق للمفاهيم (مثل»maths mastery»)، ويبدأ بإعداد الطفل رقميا ونفسيا منذ مرحلة الطفولة المبكرة، وإضافة إلى ذلك فإن المدارس توفر بيئة تعليمية محفزة مدعومة بسياسات تربوية واضحة وسجل إنجاز واضح.
وفي سنغافورة نجد تفعيلها للذكاء الاصطناعي متمثلا في الفصول الذكية الموجهة بالتقنية حيث وفرت وزارة التعليم منصة Student Learning Space (SLS) وهي أحد أبرز مشروعات التحول الرقمي في التعليم في سنغافورة، وقد طورتها وزارة التعليم السنغافورية (MOE) بالتعاون مع وكالة GovTech الحكومية، حيث تستخدم المنصة في جميع المدارس الوطنية بدءا من المرحلة الابتدائية، وتعد البيئة الرقمية المركزية للتدريس والتعلم، فبالنسبة للتعلم هي منصة للدراسة الذاتية تحتوي على مصادر تعليمية منظمة لكل الصفوف وبحسب المناهج وتتضمن كتبا تفاعلية، ومحاكاة، واختبارات تفاعلية، ومحتوى رقمي متعدد الوسائط multimedia، أما بالنسبة للتدريس فهي مزودة بميزات مهمة مثل Authoring Copilot الذي هو مساعد ذكي للمعلمين من أجل تخطيط الدروس فيقترح بنية الدرس والأنشطة، كما توفر المنصة للمعلم أدوات لإنشاء الدروس الرقمية المخصصة، وتمكنه من تتبع تقدم طلابه وتحديد الثغرات التعليمية باستخدام ما لديها من البيانات عن كل منهم، كما أنها تقدم للمعلم دعما لتطبيق التعليم التعاوني سواء داخل الفصل الواحد أو عبر المدرسة كلها، وقد حصلت هذه المنصة على جوائز في التميز وفي الابتكار عامي 2022 و2023 وهي تدعم استخدام مساعد تعلم ذكي قائم على الذكاء الاصطناعي حيث يوجه الطلاب عبر محادثات تفاعلية دقيقة ومبنية على الحقائق.
وهناك أداتان في هذه المنصة يتبدى لنا من خلالهما أيضا توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم وهما: أولا مساعد التعليقات المشروحة (Annotated Feedback Assistant - AFA): حيث يوفر تعليقات تعليمية دقيقة داخل إجابات الطلاب عبر بطاقات توضيحية، يمكن تخصيصها لتضم أسئلة استكشافية أو إشارات للوقوف عند الأخطاء. وتعمل معها بالتوازي أداة ShortAnsFA وهي أداة لتصحيح الإجابات القصيرة حيث تقدم للمعلم تغذية راجعة فورية تساعده على اتخاذ قرارات سريعة ودقيقة بشأن طلابه سواء في تقدمهم أو مشكلات التعلم لديهم، ويمكن استخدامها في أي مادة وعلى أي مستوى تعليمي، وهي تستخدم «الذكاء الاصطناعي التوليدي» لتحليل إجابات الطلاب وتقديم ملاحظات مبدئية بناء على معايير التقييم (Mark Scheme) التي يعدها المعلم. وتوفر للمعلم أدوات للتحكم بدرجة «التسامح» (Leniency) في تقييم الأداة كما تسمح للمعلمين بإضافة شرح تفصيلي، سواء بصيغة ملفات PDF أو صور وذلك في قسم «Suggested Answer» من أجل إرشاد الأداة نحو دقة أعلى في التغذية الراجعة.
وثانيا: أداة مساعد البيانات (Data Assistant - DAT): وهو أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي داخل منصة SLS مخصصة لتحليل محتوى إجابات الطلاب بشكل سريع وفعال سواء كانت نصوصا في أسئلة مفتوحة، أو مشاركات الطلاب في منتديات النقاش أو أدوات التفكير التفاعلية (ITT)، وكذلك الاختبارات التفاعلية الجديدة، ثم تقدم الأداة (بعد إجراء تحليلات ذكية) رؤى تمكن المعلمين من التدخل المبكر بدقة. ومميزات هذه الأداة أنها تقدم تنظيما وتحليلا شاملا وتعرض ملخصا للأنماط الشائعة في إجابات الطلاب (صواب أو خطأ)، كما تبرز المفاهيم الخاطئة الشائعة، وتقوم بتصنيف الطلاب في مجموعات وفقا لذلك لتسهيل المتابعة على المعلمين، حيث يمكن تصنيف الطلاب حسب المشكلات الفردية أو المجموعات، ومن ثم يرسل المعلم تعليقات جماعية مخصصة لكل مجموعة بضغطة زر.
وهناك Adaptive Learning System (ALS) وهو نظام تعلم متكيف يقدم مسار تعلم فردي لكل طالب فيبدأ معه حسب مستواه ويقدم له المهام المناسبة لذلك المستوى ثم يتصاعد معه شيئا فشيئا، مع دعم ذاتي مستمر، مقدما له توصيات تعليمية (مواضيع، أسئلة ممارسة، تغذية راجعة فورية) بشكل يتناسب مع قدرته واحتياجه، ونتيجة ذلك أن الطالب يتعلم بوتيرة مناسبة له، ويستطيع استكشاف مواضيع أعمق أو مراجعة العناصر الأضعف لديه. ولا يمكننا في الواقع تصور جهد بشري بهذا الصبر والتحمل والتدرج، حتى في الدروس الخصوصية، بينما تقدم الآلة الذكية حلا ناجعا لصعوبات التعلم ولمشكلة الفروقات الفردية فلا يبقى طالب في الخلف أبدا. هذه سنغافورة مع الذكاء الاصطناعي، وهذه إنجازاتها، فمع تفوقها التعليمي عالميا ومنذ فترة ما قبل الذكاء الاصطناعي إلا أنها لم تكتف بهذا النجاح الباهر واستثمرت فورا في الذكاء الاصطناعي لتظل في المقدمة على الدوام، وللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقا