صالح الشادي
ترتكز الدولة الإسرائيلية على أيديولوجيا الحركة الصهيونية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر كحركة سياسية بغطاء ديني، بهدف أساسي هو إنشاء دولة قومية لليهود. لم يكن الموقع الجغرافي محسومًا منذ البداية، حيث تم طرح أماكن بديلة مثل أوغندا والأرجنتين قبل الاستقرار على اختيار فلسطين، مدفوعًا بالرواية الدينية والتاريخية التي تم توظيفها لخدمة الهدف السياسي.
منذ إعلان قيامها عام 1948، وهي تعاني من أزمة شرعية وجودية في محيطها الإقليمي، مدركة أن قوتها العسكرية وحدها، بما في ذلك امتلاكها المفترض للسلاح النووي، لا يضمنان بقاءها على المدى الطويل. لذلك، تبنّت نخبتها الاستراتيجية فكرةً مفادها أن أمنها يتحقق عبر إضعاف جيرانها وتفكيك كياناتهم القومية إلى دويلات طائفية وعرقية صغيرة ومتناحرة، مما يضمن تفوقها الدائم ويحيد أي تهديد موحد ضدها.
تمت بلورة هذه الرؤية بشكل صريح في أدبياتهم الاستراتيجية، وأشهرها ما ورد في كتاب «الشرق الأوسط الجديد» الذي طرح نموذجًا إقليميًا مجزأً يخدم هيمنتها.
ضمن هذا الإطار الاستراتيجي الكبير، يجب فهم الضربة الجوية الأخيرة على قطر. هذه الضربة ليست عملاً عسكرياً منعزلاً أو رداً بحتاً على العلاقات بين قطر وحركة حماس، بل هي رسالة مدروسة متعددة المستويات:
أولاً: هي استعراض للقوة والقدرة على الوصول والضرب في عمق أي دولة في المنطقة، متحديةً أي حدود أو سيادات.
ثانياً: تأكيد على الحماية الأمريكية المطلقة، والتي تمنحها غطاءً لتنفيذ مثل هذه العمليات بثقة.
ثالثاً: اختبار لردود الفعل الإقليمية والدولية، وترسيم لحدود القوة والضعف في المعادلة الإقليمية الحالية.
رابعاً: تصعيد للضغوط وتذكير لدول المنطقة بأن «العدو المشترك» الذي يجب محاربته هو محور ما يسمى المقاومة برمته، وليس الكيان الإسرائيلي نفسه.
تعتمد إسرائيل في تحقيق هيمنتها على مجموعة أدوات متكاملة تتجاوز القوة العسكرية لتشمل:
1 - النفوذ السياسي: عبر شبكات ضغط قوية ومتجذرة في مراكز صنع القرار الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة.
2 - الحرب النفسية والإعلامية: باستخدام تقنيات متطورة في الدعاية والتأثير لتشكيل الرأي العام العالمي.
3 - الاستخبارات والعملاء: لاختراق الخصوم وتوجيه الأحداث من الخفاء.
4 - القوة الاقتصادية والتكنولوجية: لتعزيز تفوقها وبناء تحالفات مصلحية.
خلاصة القول إن الضربة على قطر هي حلقة في سلسلة طويلة من السياسات الإسرائيلية التي تنطلق من رؤية استعلائية تعتبر نفسها فوق القانون الدولي.
السؤال الجوهري الذي تثيره هذه الإستراتيجية هو مدى استدامتها. فالتاريخ يُعلّمنا أن الهيمنة القائمة على القوة والعنف وإلغاء الآخر، دون تحقيق عدالة أو سلام حقيقي قائم على الاعتراف المتبادل، هي هيمنة هشة ومؤقتة في النهاية، ومصيرها الزوال حتمًا، والعلم عند الله في توقيته.