هويدا المرشود
نحن نعيش لحظة فارقة في تاريخ الإعلام الرقمي، لحظة تتجاوز فيها الأرقام حدود المألوف وتكشف عن تحول ثقافي عالمي. بحلول يناير 2024، بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي النشطين أكثر من 5 مليارات شخص، أي ما يعادل نحو ثلثي سكان العالم. يقضي هؤلاء المستخدمون في المتوسط أكثر من ساعتين يوميًا على المنصات الرقمية، فيما يسجّل الأفراد في بعض الدول معدلات استخدام أعلى من ذلك بكثير. في السعودية، على سبيل المثال، وصل عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى 35.1 مليون شخص، ما يمثل 94.3% من السكان، وهو من أعلى المعدلات عالميًا. أما في الولايات المتحدة، فيشير تقرير لمركز بيو للأبحاث إلى أن 73% من المراهقين يستخدمون يوتيوب يوميًا، بينما 60% منهم يقضون وقتًا يوميًا على تيك توك. هذه الأرقام وحدها تكفي لتوضيح عمق التغير الذي تشهده علاقة الإنسان بالإعلام.
لكن خلف هذا التوسع الهائل في الاستهلاك، يبرز سؤال أساسي: هل يلتقي الإعلام بالمعنى؟ هل تترجم هذه الوفرة إلى وعي أعمق أم أنها تُغرقنا في سطحية أكبر؟ جيل اليوم، الذي يتنفس المحتوى بلا توقف، بدأ يكتشف أن السرعة وحدها لا تكفي. المشاهدات التي تُعد بالملايين لا تعني بالضرورة أن الأفكار قادرة على الصمود، أو أنها تحمل قيمة تتجاوز لحظة التفاعل اللحظي.
هذه المفارقة واضحة بشكل خاص في السعودية، حيث لم تعد المنصات الرقمية مجرد أدوات للترفيه أو قنوات لتبادل الصور، بل تحولت إلى فضاءات للتعلم، والتجارة، وإعادة صياغة الهوية الثقافية. الشباب السعودي يقود هذه التجربة بجرأة، مستخدمًا المنصات لتوسيع مساحات النقاش، وتقديم محتوى يعكس طموحات جيل يتطلع إلى الحضور العالمي. ومع ذلك، يظل التحدي قائمًا: كيف يمكن تحويل هذا النشاط الرقمي الضخم إلى أثر معرفي ملموس يرسّخ معنى يتجاوز الضجيج؟
الإعلام الذي يلهث وراء الأرقام وحدها يظل أسير الخوارزميات. الانتشار قد يمنح لحظة من الحضور، لكنه لا يضمن الأثر. وفي المقابل، الإعلام الذي يوازن بين التقنية والإنسانية، بين سرعة الوصول وعمق الفكرة، قادر على أن يترك بصمة لا تمحوها خوارزميات التفاعل اللحظي. القوة الحقيقية اليوم لا تكمن في الوصول إلى الملايين، بل في قدرة الإعلام على تحويل كل منشور إلى فكرة تستحق التفكير، وكل تغريدة إلى لحظة للنقاش، وكل فيديو إلى مساحة تثير وعيًا أعمق.
من منظور عالمي، هذا التحدي ليس مقتصرًا على السعودية أو الولايات المتحدة. إنه معضلة تواجه الإعلام الرقمي في كل مكان: كيف يمكن الجمع بين السهولة والجدية، بين الترفيه والتفكير، بين رغبة المنصة في التوسع ورغبة الإنسان في الفهم؟ نحن أمام خيار حاسم: إما أن يبقى الإعلام مجرد انعكاس سريع للزمن الرقمي، أو أن يتطور ليصبح قوة ثقافية قادرة على إعادة التوازن بين الإنسان والتقنية.
المستقبل لن يُقاس بعدد النقرات أو بالمشاهدات الفورية، بل بقدرة الإعلام على إعادة المعنى إلى قلب المشهد. إن تحويل الضجيج إلى تفكير، واللحظة العابرة إلى رؤية، هو ما سيحدد إن كان الإعلام مجرد أداة تسلية، أم أداة للتنوير وصناعة وعي جديد.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيستسلم الإعلام لضجيج الخوارزميات، أم سيعيد للإنسان مكانه في مركز المشهد؟ الإجابة على هذا السؤال لن تحدد فقط مستقبل المنصات، بل مستقبل الثقافة والوعي المجتمعي بأسره.