د.شامان حامد
لا يختلف اثنان على أن وزارة الشؤون البلدية والقروية استحقت إشادة واسعة بإطلاقها مبادرات تحسين المشهد الحضري، وتوحيد لوحات المحلات التجارية ضمن برنامج جودة الحياة. ولا يختلف أحد على جهود حكومتنا الرشيدة ومعالي الوزير الهمام وفريقه المعاون، إذ جاءت المبادرة في توقيت مثالي، لتواكب التحول العمراني والنهضة البصرية التي تشهدها مدن المملكة، وتعكس جدية في رفع كفاءة القيادات الفنية والإدارية بالقطاع البلدي.
لكن ما كان يُفترض أن يكون نقلة نوعية، تحوّل في كثير من الأحيان إلى هدر وعبء مالي ومعاناة يومية لأصحاب الأنشطة الصغيرة والمتوسطة، فبدلاً من التدرج والتوعية، وجد التجار أنفسهم أمام رسوم باهظة وتكاليف مفاجئة؛ فلوحة واحدة قد تكلف من 3-6 آلاف ريال، عدا الرسوم السنوية المضاعفة إذا حملت اسمًا أو شعارًا غير مسجل. والأدهى أن بعضهم اضطر لتغيير لوحته مرات عدة بسبب ملاحظات متكررة من البلدية، دون إرشاد مباشر أو لقاء ميداني، بل برسائل آلية لا تزيد المعاناة إلا تعقيدًا. ففي شوارع المملكة، لا تحتاج إلى كثير من التأمل لتدرك أن المحلات التجارية ليست مجرد واجهات للبيع، بل هي مرايا حضارية تعكس أذواق مُدننا وأصالتنا معاً، ووعي أصحابها، وذكاء البلديات، من البقالة التي تضع لافتة مسروقة من علامة تجارية مشهورة، إلى الصيدلية التي اختارت أرخص خط وأغرب لون، يبدو المشهد وكأنه لوحة فنية رسمها طفل في حبارير الظلام.
لكن البلديات، وقد أدركت أن هذه الفوضى البصرية، وأنها لا تليق برؤية 2030، قررت أن تتدخل. لا لتمنع التجارة، بل لتُهذّبها. فجاءت اشتراطات توحيد اللوحات، كمن يضع مكياجًا أنيقًا على وجهٍ شاحب. فجأة، أصبحت البقالات تشبه بعضها، كأنها نسخ مُستنسخة من محل واحد، لا تعرف هل دخلت «تموينات الراحة» أم «بقالة السعادة»، فكلها تحمل نفس التصميم، نفس الخط، نفس الألوان... ونفس الغموض. وهنا يظهر السؤال الجوهري: هل الجمال يغني عن التمييز؟ وهل من الحكمة أن نجمّل الواجهات وننسى أن لكل محل شخصية وهوية؟. هل نريد مدينة أنيقة... أم مدينة تعرف نفسها كالحباري؟.
فهناك صاحب مشروع قام بتعديل لوحة المحل أو الورشة في احدى البلديات ست مرات، ويرفعونها على النظام، وذهبوا للبلدية ولا فائدة فقط تأتيه رسالة كلما صمم أو ركب اللوحة في اليوم التالي رسالة (نفيدكم بوجود ملاحظات على المرفقات الخاصة بطلب الرقابة....)، دون أن يأتيه المراقب وجها لوجه ويقوم بإرشاده وتوجيهه لما هو صواب، ولا يزالون في المعاناة تلك للآن دون جدوى، رغم أن المراقب يأتي فقط للتصوير ويرحل، فلماذا هدر الوقت والجهد فقط الحل يوجه صاحب المحل بالخطأ أو إرسال رسالة بالمطلوب وفق النظام وانتهي الموضوع، أو رسالة بأن مشروعك مساحته كذا وكذا وأن اللوحة الخاصة بكم ستكون (بمساحة كذا في كذا) ونوع اللوحة وما يُكتب عليها، بدلاً من الهدر المالي في ذلك ناهيك عن الحالة النفسية للناس والسخط على البلديات التي فيها عناصر مشهود لهم بالخير.
إن البلديات اليوم أمام تحدٍ مزدوج: أن تحافظ على جمال المدينة، دون أن تقتل روحها. وأن تنظّم، دون أن تُسطّح. وأن تمنح المحلات فرصة للتميّز، لا أن تفرض عليها قوالب جاهزة. فالمحل ليس مجرد واجهة، بل هو قصة، وهوية، وذاكرة حيّة في وجدان السكان.
وبعد: لا بأس أن نُجمّل الفوضى، لكن الأجمل أن نُعيد تعريفها. فالمظهر مهم، لكن الجوهر أهم. واللوحة الموحدة قد تُرضي العين، لكنها لا تُغني عن اسمٍ يُحفر في الذاكرة، ولا عن تجربة تُروى في المجالس.