نجلاء العتيبي
«منصة أهلُها بوابةٌ لفرص العمل والتدريب والتطوير في القطاع السياحي».
أقرأُ هذه التغريدة في طريق العودة لمنزلي، وقد مررتُ بمعالم تستحضر في داخلي معنى الانتماء، وأستعيدُ بها صورة وطن يتجاوز في حضوره حدود المكان؛ ليغدو رسالةً حيَّةً تعكس قيمة الإنسان وقدرته على أن يكون سفيرًا لثقافته وهو يعيش تفاصيل وطنه قبل أن يكون مضيفًا لزائر في أرضه.
إنني حين أتأمَّل الكلمات التي تدعو إلى بناء قاعدة من الكفاءات السياحية، وتمكين الطاقات الوطنية، أرى أمامي وبكل فخر مشروعًا يتجاوز الوظيفة اليومية ليصل إلى صناعة هوية. فالسياحة ليست مُجرَّد حركة مسافر أو مشهد، بل هي جسرٌ بين التاريخ والحاضر، ونافذة على المستقبل.
في كل محطة أمرُّ بها أُدرك أن هذه الأرض تختزنُ طبقاتٍ من المعاني بعضها محفور في ذاكرة المكان، وبعضها يتجلَّى في عيون مَن يُرحِّبون بالضيف.
السياحة الحقيقية لا تبدأ من المطار، ولا تنتهي عند الفندق؛ تبدأ من الروح التي تتعامل مع الآخر بوصفه جزءًا من حكاية مشتركة، وتنتهي عند الوعي بأن كلَّ لحظة لقاء هي فرصة لترسيخ صورة عن وطن عميق، كريم، وفاعل؛ ولذلك فإن ما تفعله وزارة السياحة عبر منصاتها ليس مجرد تدريب مهني، بل هو إحياء لقيمة قديمة في ثوب معاصر. فالكرم الذي كان يُمارَس في مضارب البدو، والضيافة التي كانت تحكم المجالس تتحول اليوم إلى مهارة مؤسسية، ومعيار عالمي، والفرق بين الأمس واليوم ليس في جوهر الضيافة، بل في آليات التعبير عنها حيث يتحوَّل الحافز الشخصي إلى منظومة، والرغبة الفطرية إلى برنامج عمل، والكرم الفردي إلى صناعة متكاملة.
فلقد كان التحدي دائمًا أن نُظهر للعالم أن هويتنا ليست مجرد شعار، وإنما ممارسة حية تنبض في تفاصيل الواقع، ومن يتأمل الجهود المبذولة لتأهيل الشباب والشابات يدرك أننا لا نعدهم لأدوار وقتية، وإنما نهيئهم ليكونوا واجهة لوطن متجدد، يمثلون ثقافته بأصالة، وينفتحون على العالم بثقة دون أن يتخلوا عن جذورهم. وهذا التوازن بين الحداثة والأصالة هو ما يمنح السياحة قوتها الناعمة، فتصل رسالتها دون خطابة، وتترك أثرها العميق دون ادعاء، فحين نتحدث عن جذب الأفراد وتحفيزهم، فإننا لا نقصد مجرد إعلانات أو حملات دعائية، بل نقصد خلق بيئة تدفعهم إلى الانتماء الفعلي، بيئة يشعر فيها كل فرد أن عمله ليس وظيفة، مساهمة في بناء صورة وطن. وما أشد الحاجة إلى هذا الوعي؛ لأن من يعمل بلا معنى يتوقف عند حدود الراتب، أما من يعمل بمعنى فيتجاوز الأجر ليصبح شريكًا في النجاح. إن بناء قاعدة بيانات للمستفيدين، وزيادة حضور الأفراد، وتطوير المسارات المهنية ليست تفاصيل إدارية، وإنما أدوات تصنع التغيير. فالتغيير لا يأتي بالشعارات ولا يتحقَّق بالأمنيات، بل يبنى بعمل منظم، وتخطيط يوازن بين الطموح والقدرة، وبين الرؤية والواقع. وهنا تكمن القيمة الكبرى لمثل هذه المبادرات، فهي تُحول الطاقات الكامنة إلى قوة فاعلة، وتُعيد صياغة المستقبل بأيدٍ وطنيةٍ. وأنا أقرأ هذه الكلمات أتذكَّر أن السياحة ليست استعراضًا للآثار وحدها، ولا جولات تسوُّق، بل هي حوار ثقافات، كل لقاء بين مضيف وزائر هو فصل من كتاب الهوية.
وكل موقف صغير؛ ابتسامة صادقة، خدمة مُتقنة، مساعدة. قد يكون أبلغ من أيِّ حملة إعلامية، فالصورة التي تبقى في ذهن الزائر لا تصنعها النشرات الرسمية بقدر ما يصنعها التعامل اليومي. وهنا يظهر دور الكادر المؤهل الذي يجمع بين المعرفة والمهارة، وبين الأصالة والمهنية.
أرى في شبابنا وشاباتنا طاقة غير محدودة، وما ينقصهم ليس القدرة، بل الفرصة، ومثل هذه المبادرات تفتح الباب واسعًا أمامهم ليثبتوا أن الانتماء يمكن أن يتحول إلى إبداع، وأن الطموح حين يجد طريقه إلى التدريب والتمكين يصبح إنجازًا ملموسًا. لا أقرأ هذه التغريدة كخبر، ولكن كإشارة إلى مسار طويل نخطوه معًا؛ فالمجتمع السياحي ليس مجرد موظفين في قطاع مُحدَّد، ولكن هو شبكة من العلاقات التي تعكس صورة الوطن بأكمله. وإذا كان العالم يرانا من نوافذ مختلفة؛ فإن السياحة تظل النافذة الأوسع والأوضح؛ لذلك فإن تمكين أبنائنا في هذا المجال يعني أننا نُمكن هويتنا ذاتها من أن تظهر في أجمل صورها.
إن كل خطوة في هذا الطريق ليست خدمة لزائر فحسب، بل خدمة لوطنٍ يريد أن يُرى كما هو: كريمًا، أصيلًا، متجددًا، وفاعلًا في العالم.
ضوء:
«أرى في شبابنا وشاباتنا الواجهة المشرقة لقطاعنا السياحي، فهم من يحملون ثقافتنا إلى العالم، ويُجسِّدون جوهر الضيافة السعودية في كل لقاء».
- معالي وزير السياحة أحمد الخطيب