د. عبدالحق عزوزي
خلف المرحوم محمد عابد الجابري خزائن فكرية ثرية تجمع بين النقد والتحليل والبحث المتمكن، ويكفي الرجوع إلى بعض من كتبه «كالعصبية والدولة»(1971) و»نحن والتراث»(1980) و»نقد العقل العربي» بجزئيه، أي» تكوين العقل العربي»(1982) و»بنية العقل العربي» (1986) لنرى كيف أن إعادة قراءة الذات والتراث وتقديس أبجديات العقل من ضرورات البقاء «فنقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة.
ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن، وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه» كما كتب المرحوم، ولا يخفى على كل متفحص لبيب أن تكون العقل العربي بأبعاده المختلفة اللغوية والفقهية والفلسفية والكلامية وغير ذلك هو الفكر كأداة للإنتاج النظري صبغتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية، كما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن لذا فلا مناص من شرح التقهقر والمسكنة إلى استقالة العقل، وهي مصيبة داهية وآزفة ليس لها من دون الله كاشفة، فالمسلمون بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينها أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل يستيقظ ويسائل نفسه وتجديد الفكر والإصلاح يبدأ من تجديد الصلة بالعقلانية النقدية في «العقل العربي التراثي» فما نسعى إليه اليوم «من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده، بل أيضا ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، وأصولية الشاطبي، وتاريخية ابن خلدون، هذه النزوعات العقلية التي لابد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من الانتظام فيه انتظاما يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكون فيها.
إنه بدون التعامل النقدي مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات فكرنا العربي المعاصر (..) كما أنه بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا لن يكون في إمكاننا قط تأصيل العطاءات الفكرية التي يقدمها، أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر، القطاع الذي يدعو إلى الحداثة والتجديد، إنه باستعادة العقلانية النقدية التي دشنت خطابا جديدا في الأندلس والمغرب مع ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وبها وحدها، يمكن إعادة بنية العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، مما يسمح بتوفير الشروط الضرورية لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة»
هذا من جانب، ثم لا غرو أن نرى آخرين مثل عبد الله العروي في كتابه الشهير (الإيديولوجية العربية المعاصرة) (1967) والكتب الأخرى التي ألفها من قبيل (العرب والفكر التاريخي) (1973) و(ثقافتنا في ضوء التاريخ) (1983) يحدد فيها طرق عقلنة الممارسة الإصلاحية وتحديثها انطلاقا من مفاهيم الذات/ الأصالة والقطيعة وأهمها القطيعة المعرفية، أما طه عبدالرحمن فقد تناول بدوره الجدل الفكري حول الإصلاح في الوطن العربي، ونذكر هنا كتابه الأول في هذا الباب (تجديد المنهج في تقويم التراث) (1994) حيث نجد فيه تعقيبا علميا على أطروحة الجابري حول (العقل العربي) ثم كتابيه (سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية) (2000) و(روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية) (2006). والذي يعجبني في طرح طه عبدالرحمن هو تبنيه لمفهوم «روح الحداثة» مقابل «واقع الحداثة»، فالإسلاميون يقلدون المتقدمين، والتغريبيون يقلدون الغرب» وكلا النوعين من المقلدة لا إبداع عنه، إذ مقلدة المتقدمين يتبعون ما أبدعه السلف من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه، ومقلدة المتأخرين يتبعون ما أبدعه الغرب من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه» فروح الحداثة هو المأمل والمخرج، وحتى الغرب في نظره، كواقع حداثي، هو ليس إلا تطبيق واحد من تطبيقات عديدة محتملة لروح الحداثة، وبناء عليه يحدد ثلاثة أسس يقوم عليه هذا الروح وهي مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول.