د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب الاعتبار سبق وأن قرأته قبل عشرات السنين، ثم فرغت من قراءته مرة أخرى قبل أيام، بعد أن مد الله في عمري في صحة والحمد لله، وقرأت ما أقدرني الله على قراءته عبر الأعوام من أمهات الكتب وغيرها في شتى بحور العلم، وملأت جرابي بكل زاد علمي رأيته بناء، ونفضت ما علق من خبث وغثاء، حدثت نفسي أن أعيد قراءة كتاب الاعتبار، لعلني أزداد منه اعتباراً، لكن هذه المرة بروح مختلفة، ونظرة منصفة، بعد أن أرست الأيام في القلب الحكمة، وفي اللب الفطنة.
مؤلف الكتاب فارس من فرسان العرب اسمه أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ من قبيلة كنانه الكلبية، عاش أثناء الحكم الأيوبي، في نهاية القرن الخامس حتى نهاية القرن السادس، ودافع ببسالة للحفاظ على قلعة شيزر بقرب حماة بسوريا اليوم، التي اشتراها جده، وكانت منطلقاً للدفاع ضد الغزاة، كما أنه أحد الفرسان الذين كانوا بجانب نور الدين محمود زنكي ومعين الدين وصلاح الدين في حروبهم، وسيرته حافلة سنخصص لها مقالاً منفرداً.
الكتاب أضاف إلى التاريخ والجغرافيا وسير الإعلام إضافة مفيدة، فقد كان حريصاً على ذكر الوقائع الحربية، وأسماء البلدان ومواقع بعضها، وبعض أسماء الذين ساهموا في الحروب أو الأحداث، ذاكراً الفضائل مبتعداً عن النقد اللاذع، أو القول الفاحش، أو الكلام المبتذل، فهو فيما يبدو قد تربى على مكارم الأخلاق، ولا عجب في ذلك فهو أمير وسليل أسرة عريقة كريمة، نذرت نفسها للدفاع عن قلعة شيزر التي يقطنونها، كما أن والده رجل تقي كان يخط المصاحف بزخرفة فائقة كما يذكر، ولهذا فقد تشبع أسامة بالعلم والأدب.
مع كل ما ذكر من خصال حميدة تحلى بها هذا الفارس، فالكتاب الذي رأيت فيه البطولات والأمجاد وأخذتها كحقيقة في قراءتي الأولى، تداركت تلك النظرة في قراءتي الثانية بعد أن كبرت في العمر، وأدركت ما فيه من مبالغات ومديح لذاته ولأهله وذويه ومن يحب، وفيها ما يصعب تصديقه، مثل مقاتلته الأسود بكل بسالة، وارتقاء على السلم وإخراج سكينه وقتل حية من رقبتها، دون خوف وهي أمامه لا تحرك ساكناً، وأيضاً مديحه لنفسه في ميدان القتال، وكيف يجندل الأعداء، ومبالغاته في شجاعة عمه أبو العساكر، ويجدر التنويه إلى أن علاقته مع عمه كانت رائعة، ثم أصبحت سيئة، فخرج وإخوانه من قلعة شيزر مرغمين، ومع هذا فلم يذكر عمه في كتابه إلا بخير، رغم أنه كتب الكتاب وهو في عمر متقدم، حيث طال عمره حتى بلغ السادسة والتسعين، وهذا من نبل أخلاقه، وكان منصفاً عند ذكر أعدائه من الأفرنجة في ميادين القتال، ويثني على شجاعتهم، لكنه عند ذكر طبائعهم أورد قصصاً يتردد الإنسان في قبولها مثل قصته في الحمام الدمشقي، وعندما جاء إلى ذكر الأولياء الصالحين سطر قصصاً تكاد تكون خيالية مثل قصة محمد السماح عند قرب وفاته مع شيخه محمد السبتي.
لقد قرأت سيراً ذاتية لكثير من رجال السياسة والعلم والشعر والأدب في الخارج والداخل، ووجدت بعضاً منها إن لم يكن أكثرها تكيل المديح للذات، وقد تتضمن نقداً للأقران أو السابقين بوضوح أو تلميح، وبعضاً آخر أكثر موضوعية وأكثر فائدة، أما أسامة بن منقذ فقد جمع الفائدة مع الثناء على نفسه.